
بقلم: د. منال جمبلان
#ملف_المرأة_والمجتمع
زواجها وعلاقتها بالبعث
بلقيس، الطفلة ذات الأربعة عشر عامًا، أصبحت زوجة. حبلت بمحمد وحلمت بالشعر. أتراها حلمت بطفل يصبح رجلًا، ليكون بعثًا في معتقلات مايو؟ أم تراها رأت فلذة أخرى منها تطارد من جهاز أمن الإنقاذ؟ هل اختارت أن تكون أم البعثيين، أم البعث اختارها لتكون أمًا لقادته؟
تزوجت بلقيس من ضياء الدين محمد عبد الرحيم، الذي تنقل في الوظائف الحكومية ويهوى الصيد. والصيد هو ما قاده للتعرف بأسرة عكير الدامر ثم الزواج من ابنته، وسكن بها في أحد أحياء أمدرمان القديمة قبل أن ينتقل إلى الدامر. تنقلت الطفلة الشاعرة مع زوجها إلى جنوب السودان وشرقه وغربه، إلى أن استقر بها المقام في بيت أسرة زوجها بشارع العرضة بحي البوستة بأمدرمان. وهنا وجدت بلقيس مناخًا يشبه مناخ والدها، الشعر حولها ومتنفسها، فبيت محمد عبد الرحيم كان مرعى للكتب، يضج بـ “ونسة” الشعر.
في الحرب العالمية الثانية، عندما شنت الطائرات هجومًا على مدينة الخرطوم و “ضربت حمار كلتوم”، حفر محمد عبد الرحيم خنادق في بيته، لا ليختبئ فيها مع أولاده ولكن ليحمي كتبه التي أودعها صناديق كبيرة أحضرها من مصر.
شاهد ضياء الدين محمد عبد الرحيم في زوجته الشعر الذي أحبه من والده، فكان لها القافية التي احتضنت شعرها، فكانت عندما تُدعى للقاءات الإذاعة والتلفزيون تجده بجانبها يشد أزرها ويستقبل معها الشعراء في المنزل أمثال الطيب محمد الطيب.
تحولت بلقيس للمديح وإنشاء الخلاوي، فأسست أول خلوة لها في عقر دارها بأم بدة لتحفيظ القرآن للسيدات، وبعدها في الحارة السادسة ثم توالت خلوات توتي وصالحة. ولعل حبها للشعر هو الذي قادها لكتابة المديح، إذ رُصد لها حوالي 150 مدحة ملحنة، والتلحين موهبة من والدها عكير وأختها وصال.
بلقيس والسياسة.. أم البعثيين
لم تكن أسرة زوج بلقيس بعيدة عن مضمار السياسة، فعمومتهم مثل فاطمة أحمد إبراهيم وآخرين كانوا في طليعة الحزب الشيوعي. ومن أوائل البعثيين في طليعة حزب البعث كان محمود جمال وابنها الأكبر محمد ضياء الدين وأسامة بدر الدين. في ذلك الوقت، كان ابنها الأكبر محمد ضياء طالبًا في الثانوي ويعترك السياسة ورغم صغر سنه سافر إلى العراق وعند عودته شارك في انتفاضة مارس-أبريل. ولم يكن وحده، فبلقيس الشاعرة المناضلة المؤمنة بقضية البعث وفكره حولت دارها إلى خلية حزبية للبعثيين، فكتابات الحائط كان يعد لها من دار بلقيس، واجتماعات البعث تعقد في دار بلقيس، ومحاكمات البعثيين واتهامات إعدامهم تناقش في دار بلقيس. وهكذا نشأ بقية إخوته الذين التحقوا بالبعث.
لم تكن بلقيس امرأة تقنع بالحياة الرخوة، بل جُبلت على المجالدة والصلابة وقوة الشكيمة. فبينما ابنها محمد ضياء الدين معتقل في بيوت جهاز أمن الإنقاذ، كان ابنها خالد مطاردًا من نفس زبانية الإنقاذ. وبين حسرة على المعتقل ولوعة على المطارد، أرسلت وزوجها خطابًا للابن المتواجد في العراق، والولايات المتحدة الأمريكية تحشد جيوشها لغزو العراق. فتجد في نفسها القوة والصلابة لتوافق زوجها الذي كتب مخاطبًا ابنه: “يا أبو بكر البلد اللمتك في حلوها، ما تتخلى عنها في مرها”. دفعت بفلذة منها تحثه على صون بلد عربي تنتهك حرمته. لم تجزع جزع الأم فتحثه على الخروج من حرب قد لا تبقي ولا تذر، بل حثته على الوقوف موقف الرجال. وتصارع هي أفراد جهاز الأمن الذين ما فتئوا يداهمون دارها للبحث عن خالد، وكان ردها الحازم لأحدهم حين حاول استفزازها بسؤالها عن خالد “معقول في أم بتنوم وما عارفة ولدها وين؟” فجاءته الصاعقة في حينها: “نحنا ما ربونا نسأل عن الرجال وين، لكن بناتي نايمات وراي”. فاستمر في غيّه وبحث أسفل السرير، فسأله زوجها ضياء: “بتفتش في منو؟”، فقال المأفون عن خالد. فما كان من الأب إلا رد عليه بصاعقة أخرى: “علي الطلاق، خالد ولدي لو بتدس تحت السرير أديهو طلقة قبل إنتوا تمسكوه”.
لم تهن لزبانية الإنقاذ حين استفزها أحدهم بقوله “ولدك خالد هارب” فاشتعل فيها الغضب النبيل وأنشدت:
“فرّ يا ابن الوليد جهز جيوش الرجعة”
إنها أم البعثيين حين قيل لها أثني ابنك محمد عما يفعله ويهدأ بالك من مراوحة المعتقلات، فكان قولها: “محمد ما ولدي براي، محمد ولد كل السودانيات”. ثم أنشدت:
“عرّش يا أب كريق
وسوي سواتك..
ماني براي أمك
كل الحريم أماتك”
Leave a Reply