
#ملف_المرأة_والمجتمع
في خضمّ هذه الحرب الطاحنة التي تعصفُ بوطنٍ كانَ يومًا فسيفساءَ من الألوانِ، وتُلقي بظلالِها القاتمةِ على كلِّ مساماتِ الحياة، تبرزُ المرأةُ السودانيةُ كصخرةٍ صلبةٍ في وجهِ العواصفِ، لا تُذيبُها نيرانُ القذائفِ، ولا تُحنيها رياحُ النزوح. إنها ليستْ مجردَ شاهدةٍ متأثرةٍ بالصراع، بل هي محورُ الصمودِ الذي تدورُ عليهِ رحى البقاءِ، حاميةُ القيمِ التي تَبقَى عصيّةً على التشويهِ، وصانعةُ الأملِ في أحلكِ الظروفِ، حيثُ لا يرى القلبُ إلا الركامَ واليأس.
لقد حملتْ نساءُ السودانِ على عاتقهنَّ أعباءً تُثقلُ الجبالَ، وتُذيبُ الفولاذَ. فبينَ لوعةِ الفقدِ التي تُشيِّدُ نصبًا من الحزنِ في كلِّ روحٍ، ومرارةِ النزوحِ التي تُلقي بالأجسادِ في بيداءَ لا تُعرفُ، وقسوةِ الحصارِ التي تخنقُ الأنفاسَ، يواجهنَ يوميًا تحدياتٍ لا تُحصى، تُعيدُ تعريفَ الصبرِ في كلِّ لحظةٍ. ولكنَّ العجبَ كلَّ العجبِ، أن في كلِّ بيتٍ يئنُّ من وطأةِ الحربِ، وفي كلِّ خيمةِ نزوحٍ تُلامسُ السقفَ آلامُ الأرواحِ، وفي كلِّ مدينةٍ وقريةٍ تلطخُها دماءُ الأبرياءِ، نرى أيادي النساء تبني من جديدٍ ما هدمتْهُ فوضى العبثِ. إنهنَّ من يقفنَ في طوابيرِ الخبزِ الطويلةِ التي تشبهُ طوابيرَ الانتظارِ على بابِ القدرِ، ومن يبحثنَ عن الدواءِ الشحيحِ كمن يبحثُ عن خيطِ حياةٍ في لججِ الموتِ، ومن يبتكرنَ حلولًا لمواجهةِ شحِّ المياهِ والكهرباءِ، ليصنعنَ من اللا شيءِ وجودًا. إنهنَّ من يحاولنَ بثَّ الروحِ في مؤسساتِ المجتمعِ المدنيِّ المتداعيةِ، وتقديمَ العونِ الإنسانيِّ في ظلِّ غيابِ الدولةِ، كمن يُقيمُ جنازةً للحياةِ ويُعلنُ في ذاتِ الوقتِ عن ولادةِ أملٍ جديدٍ.
وفي هذا المشهدِ المأساويِّ الذي يمتزجُ فيه الدمعُ بالترابِ، تبرزُ البعثياتُ كنماذجَ مضيئةٍ للتضحيةِ والعطاءِ، كشموعٍ تُضيءُ العتمةَ دونَ أن تشتكيَ من احتراقِها. إنهنَّ لسنَ بمعزلٍ عن هذا الواقعِ القاسي؛ فهنَّ أمهاتٌ وزوجاتٌ وبناتٌ يعانينَ ما يعانيهِ سائرُ نساءِ الوطنِ. لكنَّ انتماءَهُنَّ لمشروعِ البعثِ، القائمِ على النضالِ من أجلِ التحريرِ والوحدةِ والاشتراكيةِ، يمنحهنَّ قوةً إضافيةً وصلابةً لا تلينُ، كجذورِ شجرةٍ تتعمقُ في الأرضِ لتواجهَ العواصفَ. نراهنَّ في الصفوفِ الأماميةِ للمبادراتِ المجتمعيةِ، يقدّمنَ الدعمَ للمتضررينَ، ويسعينَ لإغاثةِ الملهوفِ، ويحملنَ رسالةَ الأملِ والتغييرِ كبوصلةٍ لا تضلُّ طريقَها في صحراءِ اليأسِ. تضحياتهنَّ ليستْ ماديةً فحسبُ، بل هي تضحيةٌ بالوقتِ والجهدِ والراحةِ، إيمانًا منهنَّ بأنَّ بناءَ الوطنِ يبدأُ من صمودِ أفرادهِ وقدرتهم على التكاتفِ، كأنَّ كلَّ لبنةٍ تُوضعُ هي جزءٌ من حلمٍ جماعيٍّ لا يزالُ ينبضُ بالحياةِ.
إنَّ دورَ المرأةِ يتجاوزُ مجردَ توفيرِ سبلِ العيشِ؛ فهو يتجسدُ في متابعةِ الأبناءِ في ظلِّ ظروفٍ تعليميةٍ وصحيةٍ كارثيةٍ، وكأنها تُحاولُ زرعَ الورودِ في أرضٍ بورٍ. هي من تسهرُ على سلامتهم النفسيةِ في بيئةٍ مليئةٍ بالصدماتِ، كأنها تُلملمُ شتاتَ أرواحٍ صغيرةٍ وتُعيدُ رتقَها بالحبِّ والحنانِ. هي من تحرصُ على غرسِ القيمِ الأصيلةِ في نفوسِ الجيلِ الجديدِ، قيمِ التعايشِ والتسامحِ والانتماءِ للوطنِ، في محاولةٍ يائسةٍ لمواجهةِ خطابِ الكراهيةِ والانقسامِ الذي تُروّجُهُ الحربُ، وكأنها تُقامرُ بآخرِ أوراقِ القلبِ. إنها الحصنُ الأخيرُ الذي يحمي نسيجنا الاجتماعيَّ من التمزقِ، والملاذُ الآمنُ الذي يحافظُ على هويتنا وقيمنا في زمنِ الاضطرابِ، زمنٍ تبدو فيهِ كلُّ الأشياءِ قابلةً للذوبانِ إلا قلبَ امرأةٍ مُحبَّةٍ.
إنَّ ما تقومُ بهِ المرأةُ السودانيةُ عامة، والبعثياتُ على وجهِ الخصوصِ، هو شهادةٌ حيةٌ على أنَّ إرادةَ الحياةِ أقوى من آلةِ الحربِ، وأنَّ الزهرَ يمكنُ أن ينموَ من بينِ شقوقِ الجدرانِ المهدمةِ. إنهنَّ يقدمنَ لنا دروسًا يوميةً في الصَلابةِ والصبرِ والمقاومةِ، تُكتبُ بدمِ القلبِ وعرقِ الجبينِ. وعلى عاتقهنَّ تقعُ مسؤوليةٌ جسيمةٌ في إعادةِ بناءِ ما دمرتْهُ الأيدي الآثمةُ، وفي الحفاظِ على شعلةِ الأملِ متقدةً، حتى تشرقَ شمسُ السلامِ والديمقراطيةِ على بلادنا من جديدٍ، وتعودَ الروحُ إلى جسدِ الوطنِ المنهك.
Leave a Reply