
أ.د. عبدالسلام الطائي
المقدمة
تعد ثورة17 تموز 1968 في العراق من أبرز المحطات السياسية التي أثارت جدلاً واسعاً في توصيفها وتفسيرها، سواء بوصفها انقلاباً عسكرياً محضاً أو ثورة مسلحة شاملة لتغير الدولة والمجتمع. هذه الجدلية لا تندرج ضمن خلافات المصطلح فحسب، بل تنعكس على فهم طبيعة التحولات التي أعقبت هذا الحدث، وما إذا كانت تحمل سمة التغيير الجذري أم أنها مجرد إعادة توزيع للسلطة داخل المنظومة القائمة.
انطلاقاً من هذه الإشكالية، يحاول هذا المقال يسعى الى تقديم قراءة تحليلية نقدية تستند إلى مناهج علم اجتماع الثورة وعلم الاجتماع السياسي، لفهم طبيعة هذا التحول من حيث البنية، الغائية، والمالات، مستعرضين بذلك نماذج مقارنة من تجارب عربية ودولية مشابهة. اخذين بعين الاعتبار، ليس كل الثورات عسكرية، ولا كل الانقلابات ثورات(موريس دي فيرجيه) مفكر الامة الفرنسية
أولاً: الإطار المفاهيمي – الثورة والانقلاب في الأدبيات السوسيولوجية
يُميز موريس ديفيرجيه، أحد أبرز منظّري علم الاجتماع السياسي بفرنسا، بين مصطلحي الثورة والانقلاب، موضحاً أن الثورة هي:
“تحوّل جذري شامل في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يتم غالباً بصورة فجائية، ويؤدي إلى تغيّر في علاقات السلطة والشرعية”.
في حين يُعرف الانقلاب بأنه تغيير في القيادة أو النخبة الحاكمة دون إحداث تحوّل في النظام البنيوي القائم. ويُشير مفكر الدولة الفرنسية “دي فيرجيه” إلى أن الانقلاب قد يتحول إلى ثورة إذا تحقق الآتي:
تحوّل النظام السياسي بشكل جوهري.
إدخال إصلاحات اقتصادية واجتماعية بنيوية.
إعادة تشكيل علاقات القوة والتحالفات داخل المجتمع والدولة
ثانياً: في التفريق المفاهيمي – من فوهة البندقية إلى إرادة الجماهير
يعاني الخطاب السياسي العربي من خلطٍ منهجي بين الانقلاب العسكري والثورة الشعبية، حيث يُجرى أحياناً تسويق أحداث الاستيلاء العسكري على السلطة على أنها “ثورات”، في محاولة لإضفاء الشرعية على فعلٍ يفتقر إلى القاعدة الجماهيرية والبرنامج التحويلي. كما حصل في انقلاب حافظ الأسد على القيادة الشرعية لثورة اذار البعثية وانقلاب بينوشيه في تشيلي (1973) الذي لم يُفضِ إلى إصلاحات تقدمية، بل عزّز حكمًا سلطويًا، مما يجعل تصنيفه السياسي يندرج في إطار الانقلاب العسكري لا الثورة.
حيث تُسهم هذه الممارسات في تشويه الذاكرة الوطنية، عبر تزييف المفاهيم التاريخية والسياسية، والتقليل من شأن الثورات التي تأسست على تضحيات الشعوب وإرادتها الجمعية ومنجزاتها الثوريىة. لذا يصبح من الضروري إعادة التأكيد على الفوارق الجوهرية بين الانقلاب والثورة، لا كمفاهيم نظرية فحسب، بل كواقع سياسي اجتماعي يتجسد في السياسات والنتائج
ثالثاً: نماذج مقارنة – تحولات من الانقلاب إلى الثورة
سنقدم تجارب تاريخية بارزة كدلائل على إمكانية تحول الانقلاب العسكري إلى ثورة مكتملة، من أبرزها:
مصر (1952): بدأ الحدث بانقلاب عسكري نظمه الضباط الأحرار، ثم تطور إلى مشروع قومي إصلاحي بقيادة جمال عبد الناصر، شمل تأميم قناة السويس، والإصلاح الزراعي، وسياسات اجتماعية واسعة النطاق.
كوبا (1959): لم يكن انقلاباً عسكريا تقليدياً، بل حملة مسلحة شعبية بقيادة فيدل كاسترو ضد نظام باتيستا، تحوّلت لاحقاً إلى ثورة اشتراكية ذات دعم شعبي فعلي.
رابعاً: قراءة في تجربة تموز 1968 العراقية – ثورة أم انقلاب؟
عند النظر في أحداث تموز 1968 في العراق من خلال الأدوات التحليلية أعلاه، نلحظ أن العملية تجاوزت حدود التغيير العسكري البسيط لتأخذ شكلاً بنيوياً مؤسساً لمشروع سياسي واجتماعي واقتصادي شامل. ومن بين المؤشرات الدالة على طابعها الثوري:
تشكيل جبهة شعبية وطنية ذات طابع تعددي تضم قوى قومية ويسارية.
منح الحكم الذاتي للأكراد عام 1970، في خطوة سبقت العديد من التجارب الأوروبية، مثل إقليم الباسك (1979)، أيرلندا الشمالية (1998)، وكورسيكا (1991). بفرنسا.
قرار تأميم النفط عام 1972، شكل نقطة انعطاف كبرى في مسار الاستقلال الاقتصادي والتحرر من التبعية.
إطلاق برامج تنموية كبرى في مجالات التعليم، الإسكان، الصحة، الأمن الغذائي، ومحو الأمية، فضلاً عن تعزيز التصنيع العسكري وبناء قدرات الدولة.
بناءً عليه، فإن ما حداث في 17–30 تموز يمكن النظر إليها بوصفها ثورة عسكرية مسلحة ذات أبعاد ثورية واصلاحية تحررية وقومية اشتراكية، لا مجرد انقلاب تقليدي يُعنى بتبديل النخب والاستيلاء على السلطة
خامساً: آفاق مستقبلية – نحو تجدد ثورة البعث
في ظل التعقيدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها حكومات التبعية الإيرانية في العراقية بجميع المجالات، تبرز تساؤلات حول إمكانية نشوء حراك ثوري جديد، يتجاوز إخفاقات الحركات السابقة، لا سيما انتفاضة تشرين التي افتقرت إلى الرؤية السياسية والتنظيم البنيوي.
حيث تشير مؤشرات سياسية حالية، منها الاتجاه نحو رفع العقوبات عن رموز من الكفاءات البعثية الوطنية مثل، الدكتور محمد الراوي وزير التجارة الأسبق والمهندس محمود ذياب الأحمد و..، إلى احتمال انبعاث مشروع سياسي جديد قد يرى النور في أفق 2025–، ضمن شروط داخلية وإقليمية متغيرة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى بلورة نموذج بعثي تنظيمي متجدد لثورة فعالة، تتسم بالواقعية، والشمولية، والقدرة على تعبئة الطاقات المجتمعية.
الخاتمة: اعتراف دولي بقيادة البعث
إن توصيف ثورة 17-30 تموز 1968 يظل رهناً بالمقاربة المعتمدة: فإذا ما استندنا إلى علم اجتماع الثورة ومنهج التحليل البنيوي، فإن المؤشرات تؤكد أن ما جرى هو نموذج لثورة شاملة سعت إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع. أكثر من كونه مجرد انقلاب عسكري تقليدي.. وبينما يبقى الجدل مشروعاً، تظل المسؤولية الفكرية والسياسية قائمة لتفكيك المفاهيم، وصيانة الذاكرة الوطنية من التشويه، في سبيل بناء وعي جمعي قادر على استيعاب دروس التاريخ واستشراف أفق التغيير القادم والصادم سيما بعد رفع العقوبات الامريكية عن رموز البعث.
ولا مناص من القول، يشكّل هذا الاعتراف الدولي بنزاهة وكفاءة قيادة ثورة البعث في إدارة شؤون الدولة والمجتمع محطة مفصلية في سردية التحوّل الوطني، إذ يُضفي مشروعية سياسية وأخلاقية على تجربة الحكم التي انطلقت من إرادة ذاتية وشعبية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى استثمار هذا الاعتراف وتحديث بنيته الرمزية والمؤسساتية الحزبية، بما يسهم في استعادة الحقوق التي تم استلابها من البعثيين، ويؤسس لعودة مستقلة تستمد شرعيتها من الوجدان الجمعي ومبادئ السيادة الوطنية. فالليل نهار ،طالما دولة الباطل ساعة ودولة الحق حتى قيام الساعة..
Leave a Reply