قراءة في تصريح البعث.. موقف مبدئي ومشروع خلاص وطني

بقلم: أمجد السيد

#آراء_حرة

في مناخ مشبع بالدخان والدم والخذلان الوطني، أصدر حزب البعث العربي الاشتراكي – الأصل، تصريحًا إعلاميا عقب دورة اجتماعه القيادي المنعقدة بنهاية يونيو جاء محكم البناء، عميق الدلالة ومعبرًا عن موقف وطني صلب يرفض الانحناء أمام عواصف الحرب والانقسام والانهيار الممنهج للدولة.

هذا التصريح، الذي جاء على هيئة بيان سياسي فكري متكامل لا يكتفي بإدانة الحرب بل يُحلل بنيتها وأهدافها ويُسمي أطرافها ويضع إصبعه على الجرح النازف في الجسد السوداني محذرا من مخطط تقسيم الوطن تحت عباءة سلطتي الأمر الواقع، اللتين تتنازعان الشرعية كأنها غنيمة وتُغذيان نار الفتنة بالسلاح، والتجييش القبلي والتدخلات الخارجية.

يمتاز التصريح بعدم التورط في المنطقة الرمادية أو الوقوف في منتصف الطريق إنه يُسمي الأشياء بأسمائها ويضع المسؤولية التاريخية على كاهل طرفي الحرب دون مواربة أو حسابات ضيقة. ويربط بشكل واضح بين استمرار القتال وبين مخطط تفكيك السودان وتحويله إلى ساحة تنازع جيو سياسي ضمن خارطة إعادة توزيع النفوذ في البحر الأحمر وشرق إفريقيَا.

البيان ليس صرخة غضب عابرة بل يُقدم تحليلًا متماسكًا لمجريات الحرب وتداعياتها السياسية والاجتماعية خاصة في ما يتصل بالتجييش القبلي وعسكرة المجتمع والتضييق على المبادرات الإنسانية ومصادرة الحريات العامة وصولا إلى عمليات “الهندسة الديمغرافية” في المدن والبلدات واستهداف المتطوعين والنشطاء واللاجئين إنها حرب ضد النسيج الاجتماعي وضد روح السودان.

يرفض التصريح بشكل مبدئي كل محاولات تأسيس حكومات زائفة بلا سند شعبي ويُدين مسرحية تعيين رئيس وزراء من طرف البرهان ورد حميدتي بحكومة موازية واصفا المشهد السياسي بأنه “عطية من لا يملك لمن لا يستحق”. ويُسقط وهم “التكنوقراط”، مفندا دعاوى الإصلاح حين تأتي من فوهة البندقية.

ما يُحسب للتصريح هو الربط الذكي بين سلوك أطراف الحرب وبين الأجندات الدولية والإقليمية التي تسعى لتحويل السودان إلى “ميدان بالوكالة”، ضمن سباق المصالح في البحر الأحمر والقارة الإفريقية وهنا يكشف البيان عن يقظة وطنية حقيقية لا تنخدع بشعارات “السلام الخارجي”، ولا تقبل حلولا مفروضة من الخارج تحت عنوان “وقف إطلاق النار”، وهي في حقيقتها مشاريع تدويل وصاية.

التصريح لا يكتفي برفض الحرب بل يدق ناقوس الخطر من تمدد خطاب الكراهية والتجييش القبلي والتحالفات العسكرية ذات الطابع الإثني ويُحذر من تحول السودان إلى “موزاييك من المليشيات”، كما حدث في نماذج أخرى. ويُذكرنا بأن تركيبة الدعم السريع والفلول وتحالفات الجيش الحالية ليست سوى امتداد لنفس عقلية التجزئة والانفصال التي قادت إلى فصل الجنوب، وفقًا لمخططات 1971 وما بعدها.

لم يكن التصريح استعراضًا سياسيًا عابرًا بل يُقرأ في طياته كوثيقة برنامَج تضع خطوطا أولى لخريطة خلاص وطني شامل فقد مزج البيان بين الرؤية التحليلية الدقيقة والطرح البديل المسؤول الذي ينطلق من قراءة الواقع بعيون الشعب لا من غرف مغلقة أو حسابات انتهازية.

في فقرة بالغة الأهمية يجدد التصريح الثقة في الشعب السوداني كطليعة ومصدر للحل لا كـ”موضوع” في معادلات القوى المتصارعة. فبينما تنشغل أطراف الحرب بتبادل الأدوار وتصفية الحسابات، وتلهث خلف الاعترافات الخارجية يؤكد البعث أن مفتاح الحل الحقيقي يبدأ من أوسع جبهة شعبية ديمقراطية تُبنى من القاعدة، وتتجاوز فخاخ المفاوضات الشكلية والتسويات الفوقية.

يُقاوم التصريح محاولة “تطبيع الكارثة”، تلك المحاولة التي تسعى لجعل مشاهد الجوع والخراب والاقتتال مشهدا اعتياديا في وعي السودانيين ومن هنا تأتي أهمية إدانته الصريحة للممارسات العنصرية ضد النازحين والتضييق على المطابخ والتكايا وشيطنة العمل الطوعي وتوظيف القانون والأمن والقضاء لقمع المبادرات المجتمعية.

فالبيان لا يقف عند التنديد بل يُعرّي الخطاب الزائف الذي يُبرر ذلك بذرائع “تنظيم العمل”، أو “محاربة المظاهر السالبة”، ويفضح نية السلطة في تسييس العمل الإنساني وتطويعه لصالح الحرب وتجفيف منابع الصمود الشعبي.

يتجلى وعي البعث الاستراتيجي في قراءة خارطة المصالح الدولية وتحذيره من “الحلول المؤقتة والزائفة” التي تُفرض من الخارج تحت غطاء وقف إطلاق النار فيما جوهرها هو إعادة توزيع النفوذ، وتقسيم البلاد إلى سلطات أمر واقع تدور في فلك المحاور وهنا يعيد البعث التذكير بأن استقلال القرار الوطني لا يُسترد إلا بإرادة شعبية حرة، لا تُخدع بشعارات “الدعم الإنساني” حين تتحول إلى أدوات اختراق سياسي، ولا تركن لـ”الوسطاء” حين يتاجرون بمآسي البلاد.

يُخصص التصريح حيزا معتبرًا لتناول أوضاع التنظيم من الداخل:
في تعبير نادر بين بيانات الأحزاب حيث يعكس ذلك شجاعة المراجعة وإيمان القيادة بأن صلابة التنظيم هي شرط أساسي لأي نهوض وطني. ويُبرز التفاعل الحيوي بين القطاعات المختلفة وتطور الأداء الإعلامي خاصة عبر صحيفة “الهدف” التي تحولت إلى منبر شعبي مفتوح، وصوت للحقيقة في وجه التعتيم والخرس المفروض بقوة القمع.

إن الإشادة بالاشتراكات والتكافل والتقارير الدورية ليست ترفا تنظيميا في هذا السياق بل هي دعامة فعلية لقدرة الحزب على الاستمرار في ظروف الحصار والحرب والتشريد. وقد تكون هذه الفقرة من التصريح “وصفة نضالية” لكل القوى الوطنية الراغبة في الاستمرار والتأثير.

إن قراءة هذا التصريح كوثيقة مقاومة ووثيقة مشروع ووثيقة مبادئ تمنحنا فرصة لفهم جوهر ما يطرحه حزب البعث العربي الاشتراكي – الأصل في هذه المرحلة المفصلية وهو بذلك، يُعيد تأكيد مبدئية موقفه لا سلام مع الحرب ولا وحدة مع التقسيم ولا حرية مع سلطة الأمر الواقع ولا ديمقراطية مع الوصاية الدولية.

هو تصريح لا يتلعثم ولا يغازل ولا يساوم بل يضع السودان أمام مرآته… ويقول له بصدق
“لن تُنقذك هذه القوى المتصارعة ولا هذه الحكومات الزائفة ولا هذه المؤتمرات الدولية…
إنّ خلاصك يبدأ من إرادتك ومن تنظيمك ومن وعيك بأن الحرب لا تُنتج وطنا بل تُنتج مقابرا ومنافي وأن الدولة لا تُبنى بالسلاح بل بالشعب وأن الخراب لا يُصلحه من تسبب فيه.”

هو تصريح للذين ما يزالون يؤمنون بأن السودان وطنٌ لا يُختصر في سلطتين ولا يُقاس بحدود معسكر ولا يُباع في مزادات الخوف… بل وطن يولد من رحم نضال شعبه كلما ضاقت به الأرض.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.