
بقلم: هيثم الشفيع
#ملف_الهدف_الثقافي
كل من سألته عنها كانت اجاباته مقتضبة وكأنه يخفي شيئًا، كل المعلومات التي جمعتها عنها لم تتجاوز اسمها وسبب جنونها، لكن لا أحد يعلم من أين جاءت؟ ولا متى؟، أو هكذا يدّعون، إلا عمي عبد الرحمن، الوحيد الذي أجابني بصراحة وباستفاضة، وملّكني معلومات لا يعلمها أحد غيره، أو هكذا قال. بيد أنه حذرّني و بشدة من أن أتحدث لغيري بما عرفت، مهما كان هذا الغير..
لكن.. ماذا؟ نعم، هذا هو اسمي رباعيًا، رغم أثر السنوات وتأثيرها على مدى وضوح الكتابة: هذا قبر المرحوم: عماد محمد عثمان ياسين (5/8/1971)، تحركت للجانب المعاكس، وجدت نفس المعلومات مكتوبة على الشاهد الآخر! ما هذا؟ إنه تاريخ ميلادي! إذا كان التأريخ المكتوب على الشاهد هو تاريخ ميلادي، فكيف أكون قد توفيت وولدت في نفس اليوم؟
اليوم، و أنا أنوي العودة إلى القرية بعد انتهاء مهمتي بالخرطوم توفى هذا الصباح جار صديقي الذي أقيم معه عادةً حين زياراتي للخرطوم، وخرجت مع جموع المشيعين من الأهل و الجيران، وبعد وصولنا للمقابر، ولأني لا أعرف أحداً غير صديقي الذي انشغل بمواساة ومؤانسة الحضور، ولحين الإنتهاء من تجهيز القبر أخذت أتجول حول القبور القريبة وأقرأ تواريخ وفاة المدفونين، حتى وقعت عيناي على شاهد القبر هذا..
لكن.. مضى عمي في حكايته: لا أدري لماذا ظل هذا التاريخ عالقاً برأسي، ربما لأنني كنت أول من التقاها.. كنا في العام 1962م، وكان الصيف لاهبًا كعادته في القرية، كنت أجلس بين الأشجار قرب النيل هربًا من نيرانه اللافحة، فجأة، سمعت صوت خطوات خلفي، ونظرت فإذا هي فتاة قروية بسيطة، بدا وكأنها في طريقها للبحر كما نسميه، لاحضار الماء، لكنني و إضافة لملاحظتي أنها غريبة وليست من بنات القرية، لاحظت أنها تحمل كيسًا بدلاً من آنية الماء المعتادة، وبدون تحية أو أية مقدمات سألتني: الليلة يوم كم؟ قلت بعد تفكير وتذكر: يوم حداشر، قالت: شهر كم؟ قلت: أربعة.
لكن ما زاد دهشتي واستغرابي أنني لاحظت أن بجانب قبر المدعو عماد هذا (والذي هو “أنا” بتطابق الاسم رباعيًا)، أن شاهد القبر الذي يليه، والذي كان شبيهًا للشاهد الأول في الطول والحجم واللون الباهت وطريقة الكتابة، والتي بدت أكثر وضوحًا لفارق السنوات، ولا اختلاف إلا في المضمون، هذا قبر المرحومة: سهير بابكر الجعلي (11/4/1992م).
ماذا؟ سهير المجنونة؟ لقد ماتت فعلاً في هذا التاريخ إلا أنها دُفنت في قريتنا، وبابكر صديقي المقرّب حكى لي تفاصيل وفاتها، وكيف أنه كان من أنزلها بصحبة آخرين لبطن قبرها، ولا أدري هل هو القدر أم المصادفات تلك التي جعلتني أعرف اسمها ثلاثيًا وأحفظ تاريخ وفاتها، فبابكر هذا هو السبب في أن تحتفظ ذاكرتي باسمها ثلاثيًا، رغماً عن أنّ لا أحد في القرية يعرفها أو يناديها بغير سهير المجنونة، وذلك لأن اسمه السائد في القرية هو بابكر (الجعلي) مما جعلني بعد معرفتي لاسم سهير كاملاً، أن أمازحه كلما جاءت المناسبة بأنه والدها، مع معرفتي البديهية بأنها تكبره كثيرًا وربما كانت في عمر والدته. أما تاريخ وفاتها فقد كان تاريخ أول يوم لي بالجامعة.
لكن.. ما قاله عمي عبد الرحمن عنها لم يبارح ذاكرتي بتفاصيل تفاصيله رغم مرور السنوات. كنت وقتها في الاجازة الممتدة بين نهاية المرحلة الثانوية وبداية الجامعة، وكنت أقضي معظم أوقاتي في قراءة الكتب من مكتبة والدي، فكان أن قرأت في تلك الفترة ولأول مرة إلياذة الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وكان افتتاني بشخصية مصطفى سعيد، وبظهوره المفاجئ في القرية دون أن يعلم أحدًا عن تاريخه الحافل، ووجدتني في لحظة اجترار للرواية وأحداثها أعقد مقارنة بين مصطفى سعيد وسهير المجنونة، والتي تعارف جميع سكان قريتنا على أنها ظهرت فجأة، لا أحد يعلم شيئًا عن تاريخها، فقررت أن أقوم برحلة تقصّي، لعل وعسى أعرف أكثر مما يتناوله الآخرون.
بدأتُ بأمي، وفوجئت بردة فعلها التي بدت لي أغرب ما يكون، إذ أنها ثارت في وجهي وحذرتني من السؤال عن هذه (الملعونة) كما وصفتها، وطالبتني أن لا أعود لمثل هذا الحديث! وكذلك فعل أبي غير أنه لم يثر، كان هادئًا وهو يحذرني من مغبة البحث وراء هذه (الدرويشة)، وهي صفة جديدة أضافها والدي للصفات التي تلصق بسهير.
المهم، أنّ ردة فعل أبي و أمي زادت من فضولي، وجعلتني أتجول بين شيوخ ونساء القرية، بل سألت حتى الشباب الأكبر مني سنًا، لكن تباين اجوبتهم وردود أفعالهم زاد من حيرتي، ولم أطمئن إلى معلومة أو اقتنع بشىء إلا بالقصة التي حكاها لي عمي عبد الرحمن.
لكن، نحن الآن في العام 2001م، أي أن سهير المجنونة ماتت منذ سنوات عديدة، لكنني لم اكتشف إلا اليوم أنها دُفنت في ذات التوقيت في مكانين مختلفين. وأنا، كانت وفاتي وميلادي في نفس التوقيت..
لكن، قال لي صديقي و هو يودعني: كل سنة وإنت طيب مقدمًا يا خي، بكرة عيد ميلادك.
أم درمان، إبريل 2021م
Leave a Reply