
بقلم: زكريا نمر
#ملف_الهدف_الثقافي
في قرية صغيرة تقع على ضفاف نهر السوباط، تحت ظلال أشجار، كانت الحياة تسير ببطء، وكأنها تخشى إيقاظ شيء نائم منذ قرون. في تلك الأجواء وُلد طفل في فجر غريب حيث كانت السماء ملبدة والرياح ساكنة بشكل غير معتاد. لم يُصدر الطفل أي صرخات عند قدومه إلى الحياة. نظرت القابلة إليه بقلق، لكن والدته “نيادينق” احتضنته إلى صدرها وقالت: “هذا ليس صمتًا، بل هو حكمة نائمة. سنطلق عليه اسم قاي.”
نشأ قاي في تلك القرية كغريب، حتى بين أقرانه. لم يكن يتحدث ولا يضحك ولا يبكي. كانت عيناه تبحران في أفق بعيد وكأنهما لا تريان ما حولهما بل ما وراءه. لكن أصابعه كانت تعبر عن نفسها: كانت ترسم على الطين، وعلى جدران كوخه، وحتى على جلد الماعز. لم تكن رسوماته مفهومة، لكنها كانت تنقل شعورًا غامضًا من الرهبة. أشكال حلزونية، وعيون متكررة، وشمس تتساقط منها نقاط سوداء.
بدأ الناس يتناقلون الأحاديث: الولد ممسوس. ربما يسكنه كائن قديم. أمه ساحرة.. أو كانت كذلك! لكن والدته كانت ترد بهدوء: “الذين لا يفهمونه، يخافونه.”
في العام الذي بلغ فيه قاي الثانية عشرة، اجتاحت القرية مجاعة لم يسبق لها مثيل. شقّت الأرض جلدها وابتلعت بذورها، وتخلت الأشجار عن أوراقها، بينما تراجع النهر كأنه يهرب من مصير محتوم. باع الناس مواشيهم، وبدأ الأطفال يذبلون كثمار مهملة. أقام الشيوخ طقوسهم، حيث دقّ الرجال الطبول ورقصت النساء في الحقول، بينما قُدّمت القرابين، لكن المطر لم يهطل.
في إحدى الأمسيات، خرج قاي من كوخه حافي القدمين كعادته. كانت الأرض تحت قدميه ساخنة، ونظرات الناس إليه كانت أثقل من حرارة الجو. جثا على ركبتيه وبدأ يرسم بأصابعه على الأرض المتشققة دوائر ودوامات وخطوطًا تنتهي برموز غريبة.
اقترب منه شيخ القبيلة غاضبًا، قائلاً: “هذا عبث لا يروي عطشًا.” لكن أحد العجائز همس: “دعوه. أحيانًا يُسمَع في الصمت ما لا تقوله الطبول.”
وفي تلك الليلة، ضرب الرعد السماء لأول مرة منذ ثلاثة مواسم، وانهال المطر كما لو كان يخجل من تأخّره. سالت الأرض بالطين، وتحولت رسومات قاي إلى مرآة تعكس وجه السماء، وأزهرت أول زهرة في قلب الجفاف.
منذ ذلك اليوم، تغيّر كل شيء. صار الناس يطلبون من قاي أن يرسم قبل كل موسم. كانوا يأتونه بالتراب، والماء، والصخور، ويجلسون حوله بصمت، يراقبونه كمن يراقب طقسًا مقدسًا. بعضهم أقسم أن أصواتًا تُسمع كلما أنهى دائرة، وآخرون قالوا إنهم رأوا خيالاتٍ في رسومه تتحرك ليلًا. حتى الشيوخ، الذين كانوا يرفضونه، صاروا يهمسون: “ربما ليس ابن امرأة.. بل ابن الأرض نفسها.”
كبر قاي، وكبرت معه الهالة. صار صمته نبوءة، ورسوماته طقسًا، ووجوده ضرورة. ثم، في ليلة غامضة اختفى. لم يأخذ معه شيئًا. لا زادًا ولا عصًا. فقط ترك أمام كوخه رسمًا هائلًا: شمس تتوسطها نقطة سوداء. قرأ البعض ذلك كإنذار، والبعض الآخر كرسالة. لكن المطر استمر بالنزول سبع سنوات متتالية. سقيت الأرض واكتست التلال خضرة، وامتلأت البطون.
قبل أن تموت “نيادينق”، أم قاي، قالت وهي تتكئ على ظل كوخها: “من لا يملك صوتًا، يترك صدى لا يموت. ابني لم يكن نبيًّا، لكنه فهم لغة الطين.”
Leave a Reply