السائب والمتروك

بقلم: د.أشرف مبارك أحمد صالح
#ملف_الهدف_الثقافي
في ذلك العصر الغائم والوقت يأذن بالمغيب، والطيور تتهيأ للسكينة، بينما يزداد العسس في الساحات، والناس يتناقلون الهمس كأنه العملة الوحيدة المتاحة، ارتج قصر السلطان من صياحه واهتزت أرجاء المدينة.. مدينة تشبه كل المدن، بيد إنها مدينة السلطان. أسرع القوم يلبون نداء السلطان. الوقت لم يعد وقت دوام وجميعهم تجهز للعودة إلى البيوت.
– إئتوني به!
ودخل قاعة مجلسه ومحل سلطانه، وكانت حاشيته ووزراؤه وخلصاؤه ينتظرونه، وهم ينظرون إلى ككره المصنوع من الخشب المهوقني والمطعم بالأبنوس المجلوب من ما وراء مملكته في أعالي النهر. لم يصدر الناس أي صوت والتزموا الهدوء في انتظار أمره بعد هذا الصياح. كان البخور المعد من الصندل والمحلب والمسك والعنبر الغالي والقرنفل والقرفة المجلوبة من بلاد الهند والسند يعبق في المكان، وضوء الشمس وهي على وشك الرحيل يترقرق من نوافذ المجلس. نظر إليهم السلطان بعينين ضيقتين كأنما يتفحصهم، وأومأ بالسلام ثم على الككر جلس وتحكّر ونظر في الوجوه: أصحاب عمائم وثياب نظيفة وجلود ناعمة تكاد أن تكون بيضاء لم تمسّها شمس. تحكّر ثم فكّر، وقدّر، ثم فكّر وقدّر ثم نظر ونطق وقال: إئتوني به!
لم يعرف القوم أيسألونه عمن يريد؟ أم يجيبونه وهم لا يعلمون بمن يأتون؟.
تجرأ أحدهم وسأل: بمن؟ وساد صمت رهيب. وظن الجميع أنه لا بد هالك. لكن السلطان قال وعيناه تحدقان في لا شيء: إئتوني بود الأحمر، إذا الليل أدبر والصبح أسفر.
همس أحدهم، والقلق يظهر على وجهه: من ود الأحمر، يا مولانا؟
رد السلطان بعينين نصف مغمضتين وصوت كأنما يخرج من أعماق سحيقة: حلّال المشبوك لوزارة المال السائب والمتروك.
انتشر الخبر في المدينة كالنار في الهشيم. وخرج المبعوثون من القصر، يتلفتون في الطرقات، يسألون العارفين والباعة وحتى المجاذيب في الأركان: أين ود الأحمر؟
ود الأحمر لم يكن رجلا عاديًا.. قيل إنه قرأ كتب الميزانية الممنوعة، وقيل إنه كشف سر الخزائن التي لا تمتلئ، وقيل أيضًا إنه يعرف الفرق بين مال العامة ومال السلطان. والسلطان في زنقة بعد أن قل المجموع وزاد المصروف وضج الخلق.
وبعد البحث والتفتيش وجدوه جالسًا عند ركن دكان صغير في سوق الفرّاشة، يأكل الفول ويشرب الشاي وقالوا له: أجب السلطان، فقد رماك بوزارة المال، ورمى وزارة المال بك، فسدّد الرمي وأحسن الاختيار.
نظر إليهم، ثم إلى السماء وقال: ما لي بها شغل. وتمتم بكلام لم يسمعه أحد: إن المال في يد السلطان مثل ماء البحر في يد الغريق.
اعتذر لهم بلغة لا يفهمها أهل البلاط. وعاد إلى فوله وشايه. أما هم فعادوا إلى القصر بوجوه متغيرة، يجرجرون أذيال الخيبة.
قال لهم السلطان دون أن يرفع عينيه:خلّوا عنه.
ثم التفت إلى صاحب الأمر كبير وزرائه، ذاك الذي يتقن الرقص في حفلات الطاعون، وقال له: رميناك بها.
تبسم الكبير، وتبسم حلّال المشبوك وقال، وكأنه ينشد نشيدًا في المهزلة: باكر مع العساكر، وقت صحو الديوك، نرى السائب والمتروك.
١٩ سبتمبر ٢٠١٨م
سيرة الإنسان حين يصارع الأوغاد

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.