“إن بقى البندر ركازك كان أخير ليك المحل”

صحيفة الهدف

بقلم: خالد ضياء الدين
#ملف_الهدف_الثقافي
كيف نعود، وكل البلد منفى، وما تزال رائحة الموت والبارود تسكن الأزقة والحواري. ارجعوا.. كيف نرجع، والأبواب سُرقت، والأثاث، حتى أسقف المنازل؟ هل نعود لنفترش الأرض مع الحشرات والهوام؟ نعود لأحياء بلا ماء ولا كهرباء، بلا دواء ولا أسواق، لشوارع يتجول فيها اللصوص نهارًا جهارًا، ويحكمها قطاع الطرق، ويُستباح دم ومال أهلها من حملة السلاح (مرة بالميري ومرة بالملكي). نبحث الآن عن من يشتري ما تبقى من منازلنا، ذكرياتنا، ذاتنا، مرتع طفولتنا، عاصمتنا، شوارعنا التي كانت مضيئة. مدينتنا لم تعد تلك الجميلة، ما عادت تصلح للسكن، ليس فيها غير التشوّه البصري. هل نعود لصفوف التكايا وانعدام العلاج؟ نعود لحملات التفتيش والتهم الملفقة وانعدام الأمل، وسيطرة المليشيات؟
بكل أسف، حتى الذين عادوا، حَقَبوا أغراضهم في موسم الرحيل الثاني، دسوا خيبتهم في صدورهم الحزينة، والآن يبحثون عن موطن للنزوح.
نبحث الآن عن بقعة آمنة تحتوينا، (إن بقى البندر ركازك
كان أخير ليك المحل)، أما البندر، فقد أصابه “محل قتالهم”، فهل من قرية تقبلنا وأطفالنا الذين تعودوا على بسكويت الصباح مع الشاي بلبن البودرة؟
قرية لا يظن أهلها في أولادنا الظنون السيئة حين يمرّون أمامهم بقصة شعرهم التي تناسبهم ولا تناسبهم، قرية فيها مدرسة ثانوية للبنات.
لقد لفظت العواصم الثلاثة أبناءها، مثلما يلفظ الطائر فرخه الضعيف. أو لنكن أكثر دقة: عواصم غادرها أبناؤها، وعندما عادوا لم يجدوها في انتظارهم (قل للمليح الطرف ساعة نلتقي، أخاف إن جئت تجدنا قد نسيناك) لعلها لم تقبلهم لأنهم تركوها وقت حاجتها إليهم: (إذا عزّ الصديق يومًا وكان الأمر محتاجًا إليه، فاصنع من تراب الأرض قبرًا وقل: قد مات لا أسفًا عليه)..
هي قضية كبرى ستواجه أبناء المدن الكبيرة المتأثرة بالحرب؛ مدن ما عادت منازلها صالحة للسكن، وليس لأصحابها قدرة على إصلاحها وتأسيسها من جديد.
عائدون أفقرتهم الحرب، وديار ما عادت ديارًا. مدن ستُعرض بيوتها بأبخس الأثمان ولن تجد من يشتريها، وستبقى طويلا مدنًا للأشباح. أو لعل الزمان في دورته اللاحقة يعيد الأولاد (الخلو حجرك ريّح يفوفي).. أو تعود مدن الرماد تنهض بالوليدات الذين هتفوا في ساعة النصر: “حنبنيهو…” (لا ترحل.. الحبيبة تنتظر والدموع ساقية.. سرقوا الأشياء لكن الروح باقية..). حتماً نعود.. غدًا نعود.. للروضة الغنّاء، للكوخ الموشّح بالورود.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.