
أحمد محمود طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
في الزمان العربي الموحش، لا تُخيم العتمة من فراغ، بل من جرحٍ مفتوح في الوعي، ومن صمتٍ يكاد يدخل في عصب العدم تجاه ما يحدث في المنطقة العربية من غزة كبؤرة لاختبار كل الأسلحة الغربية والقتل بالتجويع وأمام عدسات العالم، ومرورا بالخرطوم التي تغرق في وحل الدم والنسيان، بل ثمة جسدٌ عربي برمّته يتمزق؛ تُنهش روحه على مائدة الأمم، بينما شعبه، الذي كان يوماً وقود التحرر وشرارة الميادين، يبدو وكأنه في صمتٍ مطبق، أو غيابٍ عن ذاته وعن المكان، لكن السؤال الجوهري هنا أهو الغياب حقاً؟ أم هو التغييب؟ هل بالفعل ماتت إرادة الجماهير؟ أم تم تدميرها وعلى مراحل، وكما يغتال الشعب لا بالرصاص فقط، بل بالخذلان، بالخداع، بالترويض الطويل؟
الواقع أن الجماهير العربية لم تمت، بل جُرِّدت من أدواتها. أُفرغت من معنى الفعل، من جدوى المقاومة، من ثقتها بذاتها. إنها ليست ميتة، بل مُخدّرة، مُثقَلة، تائهة في متاهة الحصار والقمع والإعلام المضلِّل. سنوات من الإذلال تجاه هذه الجماهير، و معها انكسارات المشروع القومي، ومن خيانة الحكام وتواطؤ الساسة، فكلها قد صنعت جداراً من الشك بين الشعب وذاته وأفقدته القدرة على النهوض في لحظة حاسمة ومهمة في تاريخ الأمة. فهل يُلام الشعب وحده في هذه المحنة المتجلية في كل مفاصل الأقطار العربية؟ وهل يمكن أن يحاسب هذا الشعب والذي تم خذلانه يُحاسب ألف مرة ثم انكمش داخل ذاته؟
إن ما نشهده ليس انطفاءً للروح العربية، بل محاولة ممنهجة لخنقها. ففي كل قطرٍ عربي تقريباً، أُخضعت الجماهير لعمليات نزع القدرة على الحلم، لا عبر الحرب وحدها، بل عبر إعلام يُجمّل القبح، وثقافة تُمجّد الاستهلاك، ونخب مثقفة تُطبّع مع الانكسار باسم الواقعية. فتغيّر سؤال الأجيال من “متى ننهض؟” إلى “هل يستحق أن نحاول النهوض أصلا؟”، وهي لحظة الانكسار الأخطر: حين يُصيب الشك الجماهير ويدخلها التوجس تجاه التغيير..
لقد تم أُحباط انتفاضات كثيرة في مسيرة هذا الشعب وخُدعت حركاتٌ شبابية عظيمة، وجُيّر الغضب النقي لصالح أجندات مشبوهة. لكن، من المسؤول عن ذلك؟ والجواب هنا ليس الغرب وحده، ولا الأنظمة المتخاذلة وحدها فقط، بل أيضاً الأحزاب التي لم تجدّد لغتها، ولا فكرتها، ولا حضورها في ضمير الناس. الأحزاب القومية التي كانت ذات يوم ضمير الأمة، ارتبكت، وتكلّست، وغرقت في شعاراتها. بعضها غدا تابعاً للسلطة، وبعضها اعتزل الشعب، وبعضها الآخر تحوّل إلى متحفٍ لفظي.
إنّ ما يفتقده الإنسان العربي اليوم ليس فقط الخبز والكرامة، بل المشروع؛ المشروع الذي يُقنعه بأن لتضحيته معنى، وأن لدمه مستقبل. فالانتماء لا يُزرع بالخطابة، بل بالأمل المصنوع من فعل حقيقي. وما غاب عن المشهد ليس الحشود، بل البوصلة. ليس الصوت، بل من يُنصت له. ليست الشعارات، بل الحقيقة.
ولهذا، فإن سؤال “أين الجماهير؟” ينبغي أن يتحوّل إلى سؤال أكثر راديكالية: “أين من يستحق ثقتها؟ ومن سيترجم وجعها؟ من يُعيد لها الإيمان بأن العالم العربي ليس ساحة تُنهب، بل وطن يُستعاد؟”.
الإرادة وضمن منظور صحيح لم تمت وسط الجماهير وهي وضمن معنى عميق تنحت في جدران الصمت وتتحين اللحظة الأكثر عمقا أي لحظة الثورة من أجل أن تنبض هذه الثورة في الحناجر الصامتة، في الأغنيات الخافتة، في العيون التي لا تزال تدمع حين ترى مشهد الطفل الفلسطيني الشهيد، أو المرأة السودانية النازحة، أو اللاجئ العربي وهو يُغرقه البحر في الحلم. تلك ليست علامات موت، بل إشارات حياةٍ تبحث عن من يحتضنها بصدق. لذلك فإن السؤال لم يعد إنشائياً، بل مصيرياً: هل ستكتفي الأحزاب والحركات بتأبين الأمة؟ أم تعيد صياغة مهمتها من جديد؟ هل سنكتفي بتفسير الهزيمة؟ أم نخطط لمفهوم جديد للنصر ؟ وهل سنواصل في جلد الذات؟ أم سنبدأ بخلع الأقنعة وكسر الصناديق المغلقة التي قُبر فيها الحلم؟
لقد آن أوان لفكرٍ جديد، ليس لأنه يختلف في الأسماء والشعارات، بل لأنه يُعيد تعريف القومية لا كإيديولوجيا، بل كمسؤولية أخلاقية. آن أوان قيادةٍ لا تطلب من الجماهير أن تثق بها أولاً، بل تبدأ هي بثقتها في الجماهير. آن أوان خطابٍ لا يُخيف الناس، بل يُلهمهم؛ لا يُشعرهم بالعجز، بل يُشعل فيهم شرارة القدرة مصحوبة بالأرادة، آن الأوان لحركة تحرر قومي جديدة، تضع الإنسان العربي، كرامته، ومستقبله في صلب المشروع، لا في هوامشه.
خاتمة:
إننا لا نعيش نهاية التاريخ، بل بداية ما بعد الصدمة. وما يُطلب منا اليوم، ليس البكاء على ما فُقد، بل استعادة القدرة على الحلم، لكن هذه المرة بحذر العارف، لا بعفوية الحالم. ليست الأزمة في الجماهير التي لم تخرج، بل في القيادات التي لم تعرف كيف تُخرجها. ليست في صمت الشارع، بل في عجز المنابر. ليست في غياب الشجاعة، بل في تغييب المعنى.
فليكن إذن زمن استرداد المعنى. زمن استعادة العلاقة بين الكلمة والسيف، بين الدم والقضية، بين الكرامة والحياة. وحين نجرؤ على أن نُحبّ أمتنا بلا مواربة، وأن نخاطبها لا كما كانت، بل كما يمكن أن تكون، نكون قد بدأنا أول الطريق. وحين نُصغي لصمت الجماهير لا بخوف، بل بإيمان، نكتشف: أن هذا الصمت… ليس خنوعاً، بل انتظاراً لصوتٍ صادق، يُعيد تسميتها لا بـ “الجموع”، بل بـ “الطليعة الآتية من الأعماق”. وحين تأتي… سيعود التاريخ للمشي على قدميه.
Leave a Reply