
تقرير: الهدف
في ذكرى انفصال جنوب السودان الـ(14)، التي تحل اليوم التاسع من يوليو، يستعيد السودانيون مشهدًا مريرًا لفقدان جزء من الوطن، ويجدون أنفسهم في العام 2025 أمام احتمالات مماثلة، بل ربما أكثر اتساعًا. فالبلاد تمر بمنعطف حاد تتصارع فيه قوى عسكرية وسياسية على مشروعية الحكم، في ظل حرب طاحنة وانهيار مؤسساتي غير مسبوق، يعمّق التمزق الجغرافي والاجتماعي، ويهدد بما هو أسوأ.
حكومتان… وبلاد واحدة تتشظى
المشهد الحالي بات أشبه باختبار قاسٍ لوحدة السودان. من جهة، أعلنت قوات الدعم السريع تأسيس الهيئة القيادية لتحالف “تأسيس” تمهيدًا لتشكيل حكومة أمر واقع، مستندة إلى نفوذها الميداني الممتد في غرب البلاد. هذه الخطوة تمثل ـ في جوهرها ـ انتقالاً من معادلة القوة العسكرية إلى محاولة إنتاج سلطة سياسية.
ومن جهة أخرى، يستعد الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، لتشكيل حكومة موازية مدعومة بتحالف الإسلاميين وبقايا نظام المؤتمر الوطني. هذا التحرك يأتي كرد على ما تعتبره هذه الأطراف “تمردًا” من جانب الدعم السريع، في محاولة لإظهار أن الجيش لا يزال هو الممثل الوحيد للدولة السودانية.
لكنّ التحدي الأبرز في هذا السيناريو المزدوج هو ما إذا كانت البلاد تتجه فعلاً إلى نموذج حكومتين، وهو ما قد يفضي فعليًا إلى تفكك الدولة إلى كيانات متنازعة، تحت مسمى السلطة.
مروان محمود: “الأسوأ قادم إن لم نتدارك”
من جانبه يتخوف رئيس المكتب التنفيذي لقطاع جنوب الخرطوم بالتجمع الاتحادي، مروان محمود، في حديثه لـ”الهدف”، مما وصفه بالسيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير هو استمرار الحرب وتكريس واقع حكومتين متنازعتين مع ما يترتب عليه من تفاقم الكارثة الإنسانية وتحلل الدولة المركزية. وأضاف: “الاحتمال الأسوأ في السيناريوهات هو سيناريو الصومال: مجموعة تسيطر على الموانئ، وباقي الدولة مقسمة على المجموعات المسلحة الأخرى، خصوصاً بعد انهيار الجيش الصومالي واجتياح العاصمة وتحول الدولة إلى مناطق نفوذ قبلي. وهذا السيناريو معالجته تحتاج عشرات السنوات”.
ويرى محمود أن السيناريو الأقل سوءاً هو نموذج ليبيا، أي حكومتين في السودان، الوسط والشرق تحت سيطرة ونفوذ الإسلام السياسي، مسنود بالمجموعات الاجتماعية في مناطقهم، وحكومة في كردفان ودارفور يقودها الدعم السريع، بدعم اجتماعي مناطقي من المجموعات القبلية في غرب السودان.
وشدد مروان على أن السيناريو الأفضل، إلا أن حظوظه ضعيفة في ظل سيطرة الإسلاميين على مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية والخدمة المدنية، هو أن تحدث تسوية سياسية وفق اتفاق سياسي على غرار نيفاشا، برعاية وضمانات دولية، تفضي إلى شراكة جديدة بين القوى المدنية والجيش والدعم السريع. مشيرا إلى أن هذا السيناريو هو الأقل حظاً، ويكتنفه معوق جوهري، وهو أن الإسلاميين غير مستعدين للتفريط مرة أخرى في السلطة بسبب سيطرة مخاوف عميقة تكتنفهم من أن أي تغيير في المشهد سيكون نتيجته التضحية بهم. رافضا اعتبار أن تخوين القوى المدنية حال الوصول لتشوية أن يكون ضمن تفاعلات الجماهير، وأضاف: “تخوين القوى السياسية ناتج من خطاب تضليلي يتبناه الإسلامويون باستخدام أداة السلطة، وأي تغيير في بنية سلطة بورتسودان بإبعاد أو تقليص سيطرة الإسلاميين يعني تخلص الفضاء السياسي من الخطاب الشعبوي التضليلي، وسينفتح للآراء الواقعية والمنطقية لدحض سرديات خطاب الإسلامويين المشيطنة للقوى السياسية والمدنية”.
صديق تاور: “المشهد يُعيد لحظة انفصال الجنوب ولكن بنسخة أكثر خطورة”
ومن جانبه، قال عضو قيادة قطر السودان في حزب البعث العربي الاشتراكي، بروفيسور صديق تاور لـ”الهدف “”:من المؤسف أن تتصادف ذكرى انفصال جنوب السودان كإقليم عن وطنه الأم بعد حوالي الخمسة عشر عاماً مع مشهد مماثل لأقاليم سودانية أخرى و بذات قوى الدفع التفتيتي”. وأضاف: “في الحالة الأولى تبادل التيار الانفصالي في الجانبين خطاب التعبئة الانفصالية بتناغم وتبادل أدوار انتهى بفصل الجنوب، واليوم يتكرر نفس المشهد بوقع الحافر ولكن بصورة أشمل حيث لن يتوقف الأمر عند دارفور أو كردفان وإنما سوف يغطي كل ما تبقى من جغرافية البلاد. كما أن الأمر إذا ما حدث لا سمح الله سيؤدي لانقسامات داخلية في كل المناطق كما دلت تجربة الجنوب حتى الآن”.
وحمل تاور الحركة الإسلامية في السودان وحزبها المؤتمر الوطني المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية في كل ما جرى بحق السودان الواحد الشاسع ذي الوجدان السليم. وقال: “الطرفان يدفعان نحو السيناريو الليبي باستقلال كل طرف بمناطق سيطرته والاستحواذ على مواردها والتحكم فيها، مشيراً إلى عدم إمكانية ذلك في ظل وجود أعداد كبيرة من المليشيات المتحالفة أو المصنوعة عن قصد لإرباك المشهد”. وتابع: “فهؤلاء سيتحولون لمنافس ومنازع على النفوذ والثروة وخاصة وأنه حتى الآن لم يمكن ضبط هذه المليشيات”.
وشدد تاور على أن السيناريو البديل في هذه الحالة هو سيناريو الكنغو، الذى يتقاسم فيه أمراء الحرب السيطرة على الموارد، لصالح أفراد على حساب كل الشعب.
حاتم إلياس: “السلطة عندهم أهم من الوطن”
وفي رؤية فكرية حادة، قال القانوني والقيادي بتحالف “تأسيس” حاتم إلياس لـ”الهدف”: “يقول شارل شومانت، فقيه القانون الدولي الفرنسي: إذا كان حق تقرير المصير مؤلمًا، فإن تجاهل هذا الحق أكثر إيلامًا”. وتابع: “بالتالي، إن ما حدث لحظة فراق الجنوب للشمال، وإن كان مؤلمًا، فإن تجاهل هذا الحق سيكون كارثيًا. ولم يختر الجنوبيون الذهاب إلا لأننا لم نكن شجعانًا”. وأضاف: “ومن سوء حظ السودانيين أنهم وجدوا على كاهلهم مجموعة سياسية كانت التعبير النموذجي لكل ما يمثله تاريخ الإقصاء والتعالي، بجانب أنهم كانوا طبقة بيزنس سياسية تتعامل مع مصير شعبها بحسابات الربح والخسارة الخالية من أي قيمة إنسانية. لم يكن الجنوب، أو حتى السودانيين سوى حالة هامشية لا تعبر عن أي مشتركات ثقافية وتاريخية”.
وحول السلطة الحالية، قال: “من المتوقع أنهم، في سبيل البقاء في السلطة، ولو كان مقر هذه الحكومة في (محطات النمر) — وهي محطات قطار في قلب صحراء العتمور وبيوضه، خالية من أي حياة — لا يهم أن تكون سلطة ما تبقى من السودان في هذه المحطات، وحدهم، بلا شعب، بلا أحلام، بلا مستقبل، فقط كرسي السلطة”.
وختم بالقول: “إننا، كتأسيسيين، نعتقد أننا نمثل جانب النفس الطويل والديمومة في رؤية السودان الجديد. ليست رؤية السودان الجديد وحدها كبرنامج ومشروع سياسي، وإنما جماع رؤى السودانيين في العدالة والمساواة، وإيجاد سلطة يرى فيها الجميع أنفسهم. لذا، فإن رؤية ‘تأسيس’، قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا، هي حالة ناضجة لكل الأفكار التي تطالب بسودان جديد حقيقي، غير محكوم بأفق وأيديولوجيا الهوس الديني، ولا المجموعات الكيلبورقراطية — والأخيرة تعني الدولة اللصوصية. وغدًا سيتحقق هذا الحلم”.
السودان في منعطف اللاعودة
عمومًا يظل المشهد ما بين سلطتين تتنازعان الشرعية، ومجتمع مدني يحاول أن يرفع صوته وسط جلبة السلاح، يقف السودان اليوم عند حافَة مصيرية. فإما أن تتغلب الإرادة السياسية الجامعة، وتلتقط ما تبقى من وطن في لحظة انحدار، أو تستمر دوامة الانقسام إلى ما لا نهاية.
في المشهد الراهن، يبدو أن السؤال لم يعد “أي حكومة ستفوز؟”، بل: هل تبقّى في هذه البلاد ما يمكن إنقاذه قبل أن يصبح “الوطن” ذكرى أخرى، مثل ذلك الجنوب الذي رحل ذات يوليو؟
Leave a Reply