حين تخون الكلمات… وتغدر القلوب التي أحببتها

بقلم: لام دينق نوت شول

لطالما أمسكتُ بالقلم لا كأداة للكتابة، بل كوسيلة للضماد… كنت أكتب عن السودان الشمالي كما يكتب العاشق في خفاء، يخفي ضعفه خلف الكلمات، ويخشى أن يُقال له: “لستَ منا”. لكن ماذا بقي لي من جدوى الكتابة، حين صار كل سطر أكتبه سببًا في سَبِّي، وكل فكرة أطرحها تُقابَل بالعنصرية والاحتقار، وكأن اسمي — وحده — جريمة تستحق الجلد في ساحة السوشيال ميديا؟

أنا لام دينق نوت شول. ابن الجنوب الذي لا يرى في الشمال عدوًا، بل يرى فيه النَفَس الثاني لرئة الوطن الكبير، الذي أُجبِر على الانقسام، لكن لم تُفلِح السياسة أن تقتلع من قلبي محبته. كنت أكتب عنكم كما يكتب الابن عن أمه البعيدة، عن إخوته الذين هجرهم قسرًا لا خيارًا.

لكني اليوم، وبكل ما في القلب من وجع، أعلن توقفي عن الكتابة في الشأن السوداني، لا لأنه لم يعد يستحق، بل لأن كثيرين ممن فيه لم يعودوا يرون فيَّ سوى “دينق”، ابن الجنوب، الغريب، الآخر… الذي لا حق له في الحلم معهم، ولا مساحة له في خطابهم.

لم أكتب يومًا بدافع الحقد، ولا ألهتني أوهام النخبة، بل كنت أكتب بدافع الحب، وأحمل همّ الوطن المجروح كله في قلبي: دارفور، الخرطوم، كادوقلي، النيل الأزرق، بورتسودان، أم درمان… كنت أذرف الدمع حين يُذبح إنسان، وأرتجف حين يُحرق طفل، وأتألم حين تُمزق أم في بيتها بقذيفة لا تعرف عن الوطن سوى أنه خذلها.

لماذا كل هذا العداء؟ ألهذا الحد أصبح الانتماء القبلي أقوى من نداء الإنسانية؟ ألهذه الدرجة باتت الوطنية حكرًا على لون البشرة أو شكل الاسم أو موقع الميلاد؟

أنا من التيار الوحدوي في جنوب السودان، ولا أرى الجنوب والشمال إلا خيطًا واحدًا تمزق، ولكني ظللتُ أمسك بطرفه لعل المحبة ترقع ما مزَّقته السياسة.

لكنني اليوم، في لحظة اختناق، أضع قلمي جانبًا، لأن الكلمات ما عادت تجد مكانًا بين الجراح، ولأن الصراخ على جدار الكراهية لا يولد سوى صدى مؤلم.

أغادر الكتابة في الشأن السوداني، وقلبي مليء بالأسى، لا غضبًا، بل حزنًا عميقًا على وطنٍ لم يعرف كيف يضم أبناءه، وعلى ناسٍ ما عادوا يطيقون صوت المحبة إن جاءهم من “دينق”.

لا تظنوا أنني أرحل كارهًا… بل أرحل مكسورًا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.