قراءة للبيان السياسي حزب البعث العربي الاشتراكي قطر الجزائر

بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
في الذكرى الثالثة والستين للاستقلال، لا يكتفي بيان حزب البعث العربي الاشتراكي في الجزائر، الذي أصدره الأمين العام والناطق الرسمي الأستاذ الدكتور أحمد شوتري، باستحضار لحظة تاريخية مضت، بل يسعى إلى استنطاقها كفعل مستمر في الزمان، ومفتاح لمستقبل لم يُكتب بعد. إنه بيان يتقاطع فيه الحس التاريخي مع الرؤية المستقبلية، ويستدعي في عمقه أطروحات فلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع السياسي، ومنظور الدولة الوطنية المتجددة.
يبدأ البيان من مسلمة جوهرية: أن الاستقلال الذي تحقق عام( 1962) لا يكتمل بمجرد رفع العلم وتشكيل حكومة وطنية، بل إن حقيقته الكاملة تظل مرهونة بتحقيق سيادة الذات الحضارية للوطن والأمة ، واستكمال شروط الاستقلال الثقافي والاقتصادي والمعرفي. هنا تلتقي رؤية الحزب مع تصورات أمثال (مالك بن نبي وفرانز فانون)، ممن أدركوا أن الاستعمار لا يُطرد فقط من الجغرافيا، بل من الذاكرة والعقل والمنظومة القيمية التي حكمت رد الفعل الوطني تجاهه.
وحين يعلن البيان أن مقاومة الشعب الجزائري (فاقت كل المقاومات على وجه الأرض)، فإنه لا يسعى إلى تمجيد ذاتي مغلق، بل يؤسس لوعي جديد يُعيد توطين الأسطورة الثورية في الحاضر، لا بوصفها تمجيدًا للماضي، بل كمورد تعبوي من أجل استعادة زمام المبادرة في زمن الاستعمار المعولم، الذي لم يغادرنا، بل أعاد صياغة أدواته عبر الاقتصاد والإعلام والثقافة. بذلك، تتحول الذاكرة من سردية نوستالجية إلى قوة مادية تنسج الحاضر وتفتح بوابات المستقبل.
ويتوقف البيان عند اللغة بوصفها ليس مجرد وسيلة تعبير، بل كونها الحامل العميق للهوية والانتماء ولرؤية الأمة لذاتها والعالم. ومن هذا المنطلق، فإن المطالبة بتفعيل قانون تعميم اللغة العربية لا تُقرأ بوصفها مسألة لسانية محضة، بل كاستكمال لمعارك التحرر الثقافي التي تأخرت. فكما يرى (محمد عابد الجابري)، اللغة ليست أداة بل منظومة إبستمولوجية تعيد تشكيل الذات والمجتمع والتاريخ.
وفي أفق أكثر رحابة، يُدرج البيان المسألة الوطنية في إطار مشروع تحرري قومي أوسع، يرى الجزائر كفاعل محوري لا في المغرب العربي وحده، بل في مشروع الوحدة العربية بمفهومها الحضاري الجامع. إن الدعوة إلى إحياء الاتحاد المغاربي، وحل النزاعات العربية بالحوار لا بالقوة، تعكس رؤية (الكتلة التاريخية) التي نادى بها (أنطونيو غرامشي)، وتعمق فيها الأستاذ( علي السنهوري ) بالبناء السياسي للكتلة التاريخية ومن البناء الفكري للمشروع النهضوى والحضاري بعقل مستنير لشعبنا وامتنا )، والتي يجد حزب البعث فيها امتدادًا عضويًا لمفهوم التقاء قوى الأمة العربية – من جماهير ونخب، من نقابات ومنظمات مهنية، ومن الطبقة العاملة وصناع المعرفة – في تحالف اجتماعي يقطع مع التبعية، ويستعيد الفعل الجمعي تحت راية الأمة.
كما يستدعي البيان بيان أول نوفمبر ليس بوصفه نصًا مؤرخًا، بل كمصدر شرعية روحي واستراتيجي يؤسس لعقد وطني جديد يتجاوز العابر والمؤقت، ليؤسس للدولة بوصفها حاضنة للجماهير لا مجرد جهاز بيروقراطي. ففي الوفاء لبيان نوفمبر، ليست العودة إلى الوراء، بل استدعاء لروح المشروع الذي حرّر ولم يكتمل، والذي يطلب من الجزائريين في كل مرحلة أن يكتبوه من جديد وفق تحديات الزمن.
وفي جوهره، يقدّم البيان رؤية للدولة الوطنية لا ككيان منغلق على ذاته، بل كأفق مفتوح على التعدد، والتداول، والمشاركة، حيث لا تنمية دون ديمقراطية، ولا سيادة دون عدالة اجتماعية. وهنا تتجلى الدعوة إلى (العقد الوطني الجامع) الذي لا يُقصي ولا يُهمّش، بل يحتضن الجميع ضمن مشروع بناء وطني متجدد.
إن بيان حزب البعث في الجزائر، بهذه المناسبة الرمزية، ليس احتفالًا بذكرى الاستقلال فحسب، بل فعلًا فلسفيًا – سياسيًا يسائل المفاهيم ويعيد ترتيب الأولويات. إنه تأكيد على أن الاستقلال لم يكن يومًا لحظة من الماضي، بل هو حركة مستمرة تتطلب إعادة اكتشاف الذات، وتحرير الوعي، وبناء مستقبل يعيد للجزائر موقعها الطبيعي كقلب نابض في جسد الأمة العربية، وحلقة وعي فاعلة في جدل الحضارة الكونية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.