ندوة “التلوث البيئي وأثره السالب على الحمل والإجهاض”.. حين تصبح الطبيعة مسرحًا آخر للحرب

استعراض وتحليل: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

في زمن تتكاثر فيه وجوه الدمار، وتتماهى فيه أشكال العنف، لم تعد البنادق وحدها تهدد الحياة، بل امتدّ فعل الحرب ليطال ما لا يُرى بالعين المجردة، وما لا يُسمع ولا يُحسّ إلا حين يفتك. بات الهواء نفسه أداة قتل، والماء حاملًا لمرض، والتربة قبرًا مؤجلًا. من هنا، كان لا بد من التوقّف، لا فقط عند مشهد الحرب، بل عند صداها الهادئ والخبيث في رحم الطبيعة… وفي رحم المرأة.

وفي هذا السياق، نظّمت لجنة العمل الطوعي والإنساني بالتنسيقية النسوية الموحدة لوقف الحرب، يوم الجمعة الموافق 27 يونيو 2025، ندوة علمية نوعية حملت عنوان: (التلوث البيئي وأثره السالب على الحمل والإجهاض). تحدث فيها: بروفيسور عمران فضل: أستاذ علم الأحياء الجزيئية والوراثة، و د. عثمان الطيب استشاري الصحة العامة، مستشار منظمة الصحة العالمية. بحضور جمهور نوعي من الأطباء، الأكاديميين، نشطاء حقوق الإنسان، والمهتمين بقضايا الصحة البيئية.

إنّ الحديث عن التلوث البيئي ليس مجرّد سرد علمي للظواهر أو استعراضٍ للبيانات، بل هو ارتقاء إلى مقام الضمير الإنساني، واستدعاء للعقل الكوني كي ينهض من سباته. وفي هذا السياق، لا يسعنا إلا أن نُجلّ ونُكبر ما قام به العالمان الجليلان، اللذان تصدّيا لمسؤولية فكرية وأخلاقية جسيمة، حين حملا على عاتقهما مهمة الغوص في أعماق هذا الموضوع بالغ الأهمية والخطورة في آنٍ معًا.

لقد قدّما ما يتجاوز التوعية إلى تنويرٍ فلسفي علمي عميق، مزج بين المعطى البيئي الصارخ، والمستوى الوجودي للإنسان في علاقته بالعالم. فكان حديثهما بمثابة مرآةٍ تعكس انكسار الإنسان أمام الطبيعة، وناقوسًا يقرع في وجه الصمت العلمي المتواطئ، حين تصبح الأرض طريدةً لجشع الحضارة. كانا صوتًا للعقل في زمن التلوّث، وضميرًا للبيئة في لحظة تتهاوى فيها القيم أمام منطق السوق والاستهلاك. ومن هنا، فإن هذا التقدير ليس مجرّد عرفان بالجميل، بل هو اعتراف بمقامٍ علمي وأخلاقي يندر وجوده في زماننا.

افتتح الندوة البروفيسور عمران فضل – أستاذ علم الأحياء الجزيئية والوراثة – بعرض شامل لأنواع التلوث، مبرزًا التداخل بين الكوارث البيئية والحروب الحديثة. فالتلوث لم يعد ناتجًا فقط عن التطور الصناعي غير المنضبط، بل صار أحد وجوه الحرب نفسها:

  1. التلوث الهوائي الناتج عن تفجيرات الأسلحة وانبعاثات الحرب.
  2. التلوث المائي بسبب المخلفات السامة وتسربات المصانع والمنشآت العسكرية.
  3. التلوث الضوضائي وتأثيره على الصحة النفسية والفسيولوجية للنساء الحوامل، خاصة في مناطق النزاع.

وأشار البروفيسور إلى أن الحروب الحديثة لا تقتل مرة واحدة، بل تخلّف أثرًا بيولوجيًا يمتد لعقود، خصوصًا في أجساد الفئات الأضعف، كالأجنة والحوامل.

من جانبه، قدّم الدكتور عثمان الطيب – استشاري الصحة العامة ومستشار منظمة الصحة العالمية – عرضًا إكلينيكيًا محكمًا يربط بين التلوث البيئي وارتفاع معدلات الإجهاض والتشوهات الخلقية. كما بيّن أثر المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية المتراكمة في أجساد الأمهات، والتي تؤدي إلى:

  1. خلل جيني وتشوهات خلقية.
  2. أمراض مزمنة للأطفال حديثي الولادة.
  3. عقم لاحق أو ضعف الخصوبة نتيجة التلوث المتراكم.

تناول المحاضران العالمان أثر الحروب على النظم البيئية، حيث يتحول الصراع المسلح إلى مذبحة صامتة للطبيعة:

  1. تلوث المياه الجوفية والتربة باليورانيوم المنضب والكيماويات الصناعية.
  2. انهيار السلسلة الغذائية بفعل تدمير التنوع البيولوجي.
  3. ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي في المناطق الموبوءة.

وقد تم استحضار نماذج دولية – مثل آثار حرب الخليج – لتأكيد أن ما يحدث اليوم في السودان ليس استثناءً، بل تكرار لمأساة كونية تتجدد كلما طغت آلة الحرب على صوت العلم والحياة.

لقد وضعت الندوة إصبعها على الجرح الأكبر: أن الحرب ليست مجرد موت عسكري، بل عملية تخريب متمادية للنظام الطبيعي، وللبنى الحيوية التي لا تُعوّض بسهولة. فالمعادن الثقيلة لا تزول مع وقف إطلاق النار، واليورانيوم المنضب لا يُغسل بالأمطار، والمياه الجوفية لا تشفى من تسممها بالشعارات. من فيتنام إلى العراق، ومن دارفور إلى الخرطوم، تتشابه الكارثة وتتنقّل، ما دامت بنية التفكير العالمي تسمح بتحويل الطبيعة إلى ضحية حرب صامتة.

من أجل أمل أخضر:

لم تكتفِ الندوة بالتشخيص، بل قدّمت مقترحات عملية قابلة للتطبيق:

  1. تركيب فلاتر تنقية الهواء في المناطق المأهولة.
  2. سنّ تشريعات رادعة للحد من التلوث الصناعي والعسكري.
  3. تأسيس مراكز مراقبة بيئية لرصد المواد السامة والملوثات.
  4. تعزيز برامج التثقيف المجتمعي حول مخاطر التلوث على الصحة الإنجابية.

لكنّ التوصية الأبرز جاءت واضحة وصريحة: (وقف الحرب فورًا هو الحل البيئي الأول)، لأن البيئة لا تُرمم تحت القصف، وصحة الأمهات لا تُستعاد بالمؤتمرات فقط.

جاءت مداخلات الحضور محمّلة بالأسى والأسئلة المهمة، لكن أيضًا بالأمل والإصرار، ومن أبرز ما طُرح:

  1. ضرورة دمج الكلفة الاقتصادية للتلوث في تحليل تكلفة الحرب.
  2. الدعوة لتنسيق علمي-مدني بين الأكاديميين ومنظمات المجتمع.
  3. طرح مشروع مدني ديمقراطي لإعادة بناء النظام البيئي وفق رؤية تنموية مستدامة.
  4. دراسات ميدانية وأمثلة دولية ومحلية، أبرزها: وفيات الأطفال في أوغندا نتيجة التلوث. الوضع الإنساني في دارفور، حيث يؤكد ارتفاع معدلات الإجهاض التلقائي بين النساء المتضررات من الحرب.

اختتمت الندوة بأن (التلوث كجريمة صامتة ضد الأجيال القادمة)، لذلك فإن هذه الندوة لم تكن فعالية علمية تقليدية، بل كانت صرخة ضمير وعقل أمام كارثة جيلية، حيث تتحوّل الأرحام إلى ساحة معركة غير مرئية، ويتحوّل الحمل – رمز الحياة – إلى خطر محتمل. كما أكدت هذه الندوة أن التلوث البيئي في زمن الحرب ليس مسألة صحية فحسب، بل قضية وجودية وحقوقية وأخلاقية.

رسالة الندوة الأخيرة: (لسنا فقط مطالبين بدراسة المأساة، بل بتحمّل مسؤولية إنهائها. وقف الحرب هو بداية الشفاء، واحتضان البيئة هو احتضان لمستقبل أطفالنا.).

راي الكاتب:

أثارت المحاضرة اهتمامات عظيمة، خاصة في النقاط المتعلقة بالآثار الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية للتلوث البيئي وكما يلي:

1. الآثار الاقتصادية: (كلفة خفية تثقل كاهل الاقتصادات)

لم يعد التلوث البيئي مجرد قضية أخلاقية أو بيئية، بل غدا عبئًا اقتصاديًا باهظًا يدفع العالم ثمنه يومًا بعد يوم:

أ. تراجع الإنتاجية الوطنية: يؤدي تلوث الهواء إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية، ما ينعكس على زيادة التغيب عن العمل وانخفاض إنتاجية اليد العاملة. كذلك فإن تلوث المياه يؤثر سلبًا على جودة المنتجات الزراعية، مما يهدد الأمن الغذائي ويزيد الاعتماد على الاستيراد في دول تعتمد على الزراعة.

ب. ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية: تنفق الحكومات سنويًا مليارات الدولارات لعلاج أمراض مزمنة ناتجة عن التلوث، مثل السرطان، التشوهات الخلقية، وأمراض الرئة. وفي دول مثل الصين والهند، تُقدّر الخسائر الاقتصادية الناتجة عن التلوث بـ 4% إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي.

ت. تدمير قطاعات اقتصادية حيوية:

  • الزراعة والصيد: تلوث التربة والمياه يدمر النظم البيئية، ويقضي على التنوع البيولوجي.
  • السياحة: التدهور البيئي، مثل اختفاء الشعاب المرجانية بسبب التلوث الكيميائي، يفقد المناطق السياحية بريقها وجاذبيتها.

2. الآثار الاجتماعية: (تفكك المجتمعات وتعمّق الفجوة الطبقية)

أ. الهجرة القسرية البيئية: تتحول بعض المناطق إلى أماكن غير صالحة للحياة بفعل التلوث (كما في بعض مناطق حوض الكونغو)، مما يدفع السكان للنزوح والهجرة. وقد أدت الحروب في العراق وسوريا إلى تلويث التربة بالمتفجرات، ما حوّل أراضٍ شاسعة إلى (مناطق موت بيئي).

ب. ترسيخ الانقسام الطبقي: التلوث يعمّق التفاوت الاجتماعي؛ فالأثرياء قادرون على شراء المياه النقية والعيش في مناطق خضراء مزودة بأنظمة تنقية، في حين يتحمّل الفقراء العبء الأكبر من التلوث والأمراض. ويظهر هذا التباين بوضوح في مدن مكتظة مثل القاهرة وبكين.

ت. ضرب التعليم والتنمية البشرية: الأطفال في المناطق الملوثة يعانون من تأخر في النمو العقلي نتيجة التسمم بالمعادن الثقيلة مثل الرصاص. وقد كشفت دراسة في بنغلاديش أن الطلاب في المناطق الملوثة سجلوا درجات أقل بنسبة 15% مقارنةً بنظرائهم في بيئات نظيفة.

3. الآثار الإنسانية: (معاناة تمتد عبر الأجيال)

أ. وفيات بملايين الأرواح: بحسب منظمة الصحة العالمية، يتسبب تلوث الهواء وحده في وفاة 7 ملايين شخص سنويًا. وفي إفريقيا، يموت طفل كل 30 ثانية نتيجة أمراض مرتبطة بالمياه الملوثة.

ب. أمراض مزمنة وآثار صحية ممتدة:

  • النساء الحوامل أكثر عرضة للإجهاض والولادة المبكرة.
  • الأطفال يواجهون أمراضًا عصبية مزمنة كالربو والتوحد.
  • كبار السن معرضون لتدهور الذاكرة وزيادة احتمال الإصابة بأمراض القلب

ت. تدهور الصحة النفسية: العيش في بيئة ملوثة يرتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، خاصة في ظل الأزمات الكبرى. وفي لبنان، على سبيل المثال، أدى انفجار مرفأ بيروت وما خلفه من تلوث كيميائي إلى ارتفاع معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD).

4. الآثار الأخلاقية: (أزمة ضمير في عالم ملوَّث)

أ. انهيار مبدأ العدالة بين الأجيال:

  •  جريمة بيئية بحق المستقبل: التلوث يُورِّث للأجيال القادمة كوكبًا منهكًا، مليئًا بالسموم، وهو ما يطرح تساؤلات أخلاقية حول حقّ الأجيال الحالية في استنزاف موارد لا تملكها وحدها. (نحن لا نملك الأرض، بل نستعيرها من أطفالنا) – مبدأ أخلاقي بيئي جوهري.
  • الأنانية المؤسسية: تتخذ بعض الشركات الصناعية قرارات هدفها الربح السريع دون مراعاة آثارها التدميرية على البيئة، في غياب للضمير المهني والمسؤولية الاجتماعية.

ب. غياب التكافؤ الإنساني والتمييز البيئي:

  • التمييز البيئي: المجتمعات الفقيرة والمهمَّشة غالبًا ما تُجبر على التعايش مع الملوثات بسبب ضعف نفوذها، بينما تُحمى المناطق الغنية، وهو ما يفضح اختلالًا أخلاقيًا في توزيع الضرر.
  • تفاقم الظلم العالمي: الدول الصناعية تُنتج غالبية الانبعاثات، بينما الدول النامية تتحمل العبء الأكبر من آثار التغير المناخي والتصحر، مما يطرح تساؤلات أخلاقية حول مسؤولية الشمال الغني تجاه الجنوب الفقير.

ت. تشويه العلاقة بين الإنسان والطبيعة:

  • الاغتراب البيئي: التلوث يعكس قطيعة أخلاقية بين الإنسان وبيئته، فبدل أن يكون وصيًّا على الأرض، أصبح مستهلكًا شرهًا لا يرى في الطبيعة سوى مادة للاستغلال.
  • فقدان التقديس للبيئة: في كثير من الثقافات، كانت الطبيعة مقدسة وتحظى بالاحترام، أما اليوم فهي تُختزل في أرقام ونفايات، ما يُظهر تدهورًا في البعد الروحي والأخلاقي للإنسان المعاصر.

ث. المسؤولية الأخلاقية الصامتة:

  •  صمت النخب وصناع القرار: التغاضي عن الكوارث البيئية لأسباب سياسية أو اقتصادية يُعدّ خيانة للأمانة الأخلاقية، ويعكس تواطؤًا ضمنيًا مع الجريمة البيئية.
  • غياب الوعي الأخلاقي لدى الأفراد: استهلاك غير مسؤول، وإسراف في استخدام البلاستيك والطاقة، وسلوكيات يومية مضرة، كلّها تعكس غياب البوصلة الأخلاقية في التعامل مع البيئة.

إذا كانت التكنولوجيا والتشريعات ضرورية لمواجهة التلوث، فإن الأخلاق تمثل الحصن الأخير الذي يمنع الانهيار الكامل للعلاقة بين الإنسان وبيئته. (البيئة مرآة أخلاقية تعكس مدى تحضر الإنسان) — مقولة معاصرة.

التلوث ليس مجرد تهديد بيئي، بل أزمة وجودية تهدد الجميع. لم يعد التلوث البيئي مجرد قضية بيئية منفصلة، بل أزمة شاملة تهدد الاقتصادات، وتقوّض المجتمعات، وتمتد آثارها إلى صحة الإنسان وكرامته. ولكيلا يتحول كوكبنا إلى مقبرة للأجيال القادمة، فإن الوقت للعمل هو الآن.

ما الذي يجب فعله؟

  1. تبني سياسات صارمة: فرض ضرائب على الجهات الملوثة، وتشجيع التحول نحو الطاقة النظيفة والمستدامة.
  2. تحقيق العدالة البيئية: ضمان وصول الموارد النقية للفقراء والفئات المهمّشة.
  3. تعزيز التعاون الدولي: لأن التلوث لا يعرف الحدود، ويعبر القارات بلا جواز سفر.

(نحن لا نرث الأرض من أجدادنا، بل نستعيرها من أبنائنا) مثل بيئي قديم يختصر نداء الضمير الإنساني.

فهل ننتظر حتى تصبح مياهنا سامة وهواؤنا قاتلاً، أم نبدأ المعركة من أجل الحياة؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.