
بقلم: د. أشرف مبارك
#ملف_الهدف_الثقافي
أول هذا الحي، حينما كانت أرضه تبدي ملامحها الأولى، وتبتدر قصتها وكانت التربة تحكي عن بداية لم تكتمل، أوله منازل متفرقة، تُعد على الأصابع. وقف منزل على حافة الأفق في هذا الطرف وحيداً، شامخًا كالحلم القديم. طوبه الأحمر يغازل لون الأرض. جدرانه تحمل أسراره وأبوابه تفتح على عالم عريض من الدفء والأمان.
سكنت هذا المنزل أسرة مكونة من أب يحمل أيامها وسماء أحلامها على كتفيه، وأم تزرع الحنان في زواياه وتنسج حكايات المساء، وأطفال يكبرون ويدمغونه ببصمات تجعل له وجهاً مميزًا ونوافذ تتنفس. لا جيران قريبون، غير منازل تلوح من بعيد تتراسل بينها ولا تنتظر الرد طويلاً، وتتناجى في الليل والصدى والريح ينقلان الحكايات.
بدأت المنازل تتكاثر حوله، تتقارب، تزحف نحوه كأمواج البحر نحو الشاطئ. منزل هنا، وآخر هناك، حتى التصقت به وكأنها تبحث عن الدفء الذي كان فيه.
وفجأة ذات مساء لا يختلف كثيراً عن سواه، رحل الأب دون وداع وحل صمت ثقيل، ونافذة لم تغلق تمامًا. بكى المنزل. لم يبك كما يبكي البشر. لم تتشقق جدرانه، ولا انحنت أعمدته، بل ظلت شامخة. كان له بكاء عرفته المنازل قبل البشر. وتردد في المنازل المجاورة التنهد الخافت والنشيج بوجع خفي، وتبادلت نوافذها نظرات الحزن، لكن الحياة كانت تدب في غرفه وأروقته وفنائه. مشت على أطرافها كما تفعل دومًا واستمرت. والأم استمرت تغزل من نور الشمس قصصًا تبدد تعب النهار، وتنسج من ضوء القمر حكايات المساء التي ترسم ضحكات الأطفال وتطغى على وجعه. والأولاد والبنات يكبرون.
ومضت السنوات وخرج ابن وسار في طريقه وبقيت له صورة معلقة في الغرفة التي كانت تضحك ذات يوم. لقد أصبحت له قصة أخرى مع منزل آخر. حزن المنزل قليلًا والمنازل من حوله وسارت الحياة. وغادرت بنت لتدمغ قصتها بقصة أخرى. وأيضًا سارت الحياة.
لكن رحيل البنت التي كانت تملأ الدرج غناء خلخل أركانه وهز كيانه. كانت تملأ الدرج غناء، فتردد الجدران الغناء. كانت حين تمشط شعرها أمام المرآة تنعكس ابتسامتها على كل النوافذ. بكت كل المنازل. وانكسر الضوء في عيون الشبابيك. بدت الحياة متعثرة، لكنها سارت.
وبلا مقدمات تلاشى كل شيء. انطفأت شمعة في ليلة بلا قمر. همهمة، تنهيدات، تتردد بين المنازل كأن الريح تئن. صرخت المنازل المجاورة:
مات المنزل.. مات المنزل
انحنت أعمدته، انهدت جدرانه، انزلقت عتباته ولامست مزاريبه الأرض. ارتفع عويل المنازل.. مات المنزل. علا صراخها ونواحها. وسال دمعها أنهارًا. سال الدمع من عيون الأرض من شقوقها ومن مزاريب المنازل، سال دمع الناس جداول. لقد ماتت الأم. واملأ الوادي.
4 يونيو 2025
Leave a Reply