
بقلم: أمجد أحمد السيد
#ملف_الهدف_الثقافي
في أغنية “المصير” يجتمع الشعر الشفيف بالفن العميق، وتتشكل لوحة وجدانية باذخة الجمال والصدق من كلمات الشاعر الكبير سيف الدين الدسوقي وصوت الراحل المقيم إبراهيم عوض، أحد أعمدة الغناء السوداني الحديث.
منذ الشطر الأول: “ليه بنهرب من مصيرنا؟” نحن أمام سؤال فلسفي يطرق باب الوعي والوجدان، ليس سؤال عاشق فقط، بل سؤال وطن، سؤال جيل يبحث عن معنى ويجتهد في مقاومة اليأس والانكسار.
في ظاهرها، الأغنية تحكي قصة حب بدأت بـ”ريدة ومحبة” وانتهت بـ”عذاب”، لكن في عمقها تتجاوز العلاقة الثنائية لتصبح تعبيرًا عن أزمنة ضائعة وأجيال تبحث عن الخلاص من مصير غامض. الشاعر يربط بين التجربة الشخصية والهم الجماعي ويحول الألم الخاص إلى خطاب عام يشبه نبض الناس جميعًا.
نص الأغنية يتنقل بسلاسة بين الحنين والرفض، بين الاعتراف بالألم والإصرار على عدم الاستسلام. يخاطب الحبيب بلغة الرمز كأنه يخاطب الوطن، يخاطب الشعب، يخاطب جيلًا بكامله:
تاني ماتقول انتهينا
بتنهي جيل ينظر إلينا
باني آماله وطموحه
معتمد أبدًا علينا
هذا المقطع بالذات من أجمل ما كتب في الشعر الغنائي السوداني لأنه يرتفع من الذات الفردية إلى الأفق الجمعي، من الألم الخاص إلى المصير العام.
لم يكن سيف الدين الدسوقي شاعر غناء فحسب، بل كان صوتًا شعريًا يعبّر عن وجدان مدينة، عن تموج إنساني، عن جيل ظل يحلم رغم العثرات. في “المصير” نلمس مفردته البسيطة المشحونة بالشجن، تركيباته التي لا تتعقد ولكنها تضيء المسكوت عنه، تعبيره الشفيف عن المعاناة دون خطابية أو افتعال.
بصوت إبراهيم عوض تتحول القصيدة إلى نبض حي. لم يكن يغني فقط، بل كان يسكب أحاسيسه في كل حرف، يوصل الحزن بملامح الرجاء، يجعل من الانكسار لحظة للانبعاث، ومن العتاب بابًا للعودة.
في أدائه لأغنية “المصير”، بدا وكأنه يستدعي صوت الشباب المكسور، وفي الوقت نفسه يمنحهم طاقة المقاومة. ليس غريبًا أن تصبح هذه الأغنية مرآة لحقبة بأكملها، ورفيقة درب في لحظات التأمل والانكسار والانتظار الطويل.
“المصير” ليست فقط أغنية عن الحب، بل نص عن المعنى، عن سؤال الهوية، عن الحنين لما كان وما يمكن أن يكون. وهي نموذج لما يمكن أن تفعله الأغنية الجيدة في وعي الناس: أن تحرّك، أن توقظ، أن تضيء عتمات القلب والفكرة.
هذه الأغنية واحدة من أجمل تعبيرات الوجدان السوداني. من عز الشباب إلى القفر الياب، ومن الدموع إلى السعادة، تظل “المصير” شهادة مكتوبة بالشعر، وملحنة بالأمل.
Leave a Reply