
بقلم: زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
#ملف_الهدف_الثقافي
يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي إن التغيير في المجتمعات لا بد أن تسبقه ثقافة تمهّد له الطريق. فثقافة التغيير تدخل بالضرورة في صراع مرير مع الثقافة السائدة، التي تهيمن على تفكير الغالبية العظمى في المجتمع. ويؤكد غرامشي أن التغيير لا يحدث إلا إذا وجد قبولًا تامًا داخل المجتمع، وإذا كان يقدّم مشروعًا إصلاحيًا أفضل مما هو قائم.
لا أعتقد أن دور المثقف العضوي في التغيير قد انتهى، لكن الذي تغير هو مفهوم “المثقف العضوي” نفسه. فلم يعد للمثقف الفرد تأثير يُذكر كما كان في السابق، بحسب تصور غرامشي، بل أصبحنا أمام ما يمكن تسميته “المثقف الجمعي” المؤثر بلغة اليوم، حيث يكفي أن تُدغدَغ العواطف لتجد جوقة من المصفّقين، مقابل قلّة من المنتقدين.
أمام هذا الصعود المهول لجوقة التافهين، تراجع دور المثقف الجاد والرصين، الذي لا يطّلع على نتائج أبحاثه إلا قلّة قليلة من القرّاء الحقيقيين، أو الجهات الرسمية، التي تستثمر تلك النتائج سياسيًا واجتماعيًا. هذا المثقف غالبًا ما يُتّهم ظلمًا بأنه متقوقع في “برجه العاجي“، بينما الحقيقة أن الباحث الحقيقي يحتاج إلى خلوته بين الحين والآخر ليمارس التأمل والتحليل والمقارنة، ويرى ما لا يراه العامة.
إذا كان الفيلسوف الألماني هيغل قد تساءل في كتابه دروس في فلسفة التاريخ عن المحرك، الذي يصنع التاريخ، فإنني أعتقد أن التاريخ يُصنع ويُشكّل عبر الفكر التقدمي الثوري، الذي يمتلك إرادة “برومثيوسية” للتغيير. فالتغيير الحقيقي للبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يتم، في رأيي، إلا عن طريق المثقف؛ لأنه صانع التاريخ وأحد محركاته. بل هو، إلى جانب ذلك، يُعدّ روح المجتمع وقلبه النابض، إذ يساهم من خلال إنتاجه للوعي في تحرير المجتمعات من مظاهر التخلف والركود والسلبية، ليكون بذلك جسرًا تعبر عليه الإنسانية من ضفة الجهل إلى ضفة النور.
ومع ذلك، لا يمكننا إنكار أن المثقف يتأثر بعصره كما يؤثر فيه؛ فهو، مهما حاول، لا يستطيع أن ينفصل عن زمنه. وهذه الإشكالية إشكالية علاقة المثقف بعصره لا تزال تثير العديد من التساؤلات المؤرقة والعميقة.
فهل انتهى فعلًا دور المثقف العضوي في مجتمعاتنا المعاصرة، ليغدو مجرد ذكرى نستحضرها بحنين؟ وهل يعني خفوت صوته وتراجع إشعاعه الفكري بروز غير المثقفين على الساحة، وتمدّد ثقافة التفاهة كما هو حاصل الآن؟ كيف يمكن لنا أن نعيد إحياء دور المثقف ليصبح من جديد قوة فاعلة في إنتاج الوعي وتغيير العالم؟
لا سبيل لتحقيق التغيير في مجتمعاتنا اليوم سوى بالثقافة والأدب. لا يمكننا إعلان الحرب على الديكتاتورية، والقبلية، والجهوية، والظلامية، من دون ثورة ثقافية حقيقية تبدأ، برأيي، بإصلاح المنظومة التعليمية والتربوية في بلداننا. علينا أن نُشجع الإبداع ونمنح الجيل الجديد أدوات التعبير، التي يحبها: المسرح، والموسيقى، والسينما. ويجب أن نعمل على نشر الكتب، وتعميم المكتبات في كل حيّ وقرية.
Leave a Reply