
بقلم: د. بهجة معلا
#ملف_الهدف_الثقافي
القصة واحدة من مئات القصص، حدثت في واحدة من الولايات التي لم تطالها الحرب في أيامها الأولى.. عندما نشبت الحرب اتجه الناس إلى الولايات، إلى مسقط الرأس والجذور والأهل. خرجت هذه الأسرة مثلها مثل بقية أهل الخرطوم الذين اكتووا بنار الحرب.. وصلوا إلى الولاية بعد غياب دام أربعين عامًا، لم يزوروها فيها لا في موت ولا فرح.. حملوا ما استطاعوا حمله وهناك بحثوا عن بيت الأهل، وبعد جهد وسؤال وطرق هو الباب برقة، كأنه يتوقع أن ما سيحدث لن يسر باله ولا خاطره. وعندما لم يجد ردًا طرق الباب مرة أخرى والخوف يعلو ملامحه هو وأفراد أسرته.. بعد أربعين عامًا يطرقون باب بيت فقدوا ملامح ساكنيه، من خلف الباب جاءهم الصوت، جهورًا: “أيوه جاي”. هذا صوت أخيه، لم يتبين من هو من بين إخوانه.. فتح الباب: “مرحب بيك، أنا فلان ما عرفتني؟” قال له: “عرفتك باللحيل، وديل أولادك؟” قال له: “نعم، جينا من الخرطوم بعد الحرب دورت.” قال له: “جاي تدق بابنا بعد أربعين سنة، لا سألت لا فتشت.. أمك ماتت ما جابتك، وأخوك فلان مات، وولد أختك فلانة وما جيت ساكت عزيت فيهم.. الآن جاي عشان اتقفلت عليك كل الأبواب بسبب الحرب.. معليش ما في مكان ليك بينا.. نحن دفناك زمان، شوف ليك مدرسة أقعد فيها أنت وأولادك..”. أغلق الباب في وجه أخيه.
كثير من القصص المحزنة نسمعها أيام الحرب، الأخ الذي طرد أخاه من البيت، والأخت التي طردت أختها. هذا التهتك المريع للنسيج الاجتماعي الذي أصاب المجتمع في فترة الحرب لم يكن أقل ألمًا من الحرب التي طحنت كل شيء.
يغيب الأخ بالسنين، ولا يعود إلى دار أهله في أحسن وأسوأ الظروف التي مرت عليهم، ولكن عند الحرب اختلفت التقديرات، فمن الطبيعي أن يسعى المكتوي بنار الحرب وانعدام الأمان إلى أكثر مكان يحس فيه بالأمان، مراتع الطفولة والصبا. لكن المؤسف أن كثيرًا من الأبواب أوصدت في وجه من نزح.. انكسر خاطرهم مرتين، البعض طُرد بلا شفقة بعد أن ضاقوا بهم عددًا، والبعض الآخر طُرد من بيت الأسرة لأنهم لم يتحملوا تكاليف معيشتهم، كثير من القصص التي تدمي العين. ولكن بين هذه القصص المأساوية تطل قصصًا أخرى يقشعر لها البدن مما فيها من قيم ومواقف، فمثلما أوصدت أبوابًا في وجه طارقيها، فإن أبوابًا فُتحت بلا مقابل، وبلا منٍّ أو أذى، حتى للغرباء.. كان المثل السائد والمتمثل: “النفوس لو اطّايبت العنقريب بشيل مية”.
النزوح الذي حدث لسكان الخرطوم والولايات المتضررة إبان الحرب يمثل أكبر حركة نزوح حدثت في تاريخ السودان، وبالرغم من تضرر البعض جراء تمسكهم ببيوتهم تحت نيران الحرب، فقد تضرر آخرون نفسيًا بسبب عدم تقبلهم عند أهلهم في الولايات.
ما قادني لهذا السرد أحاديث انتشرت في الميديا عن تهتك النسيج الاجتماعي في السودان جراء الحرب، وأن ذلك بسبب ابتعاد أهل السودان عن صفات التراحم والتوادد، وانقطاع صلات الرحم مما ولد الجفوة والقسوة. كل هذه التقلبات في مسار العلاقات الاجتماعية التي عاشها الناس زجت بالكثير منهم في متاهة الأزمات النفسية، إذ تفشى الكره والحقد في بعض الأنفس.
ما خلفته الحرب من خراب في أرواحنا المتعبة يقتضي أولاً الرجوع لله سبحانه وتعالى، ولنتذكر بأن لا شيء يبقى، وأن كل شيء إلى زوال، ما يبقى فقط الكلم الطيب والسيرة العطرة. بعضنا يحتاج لمعاودة طبيب نفسي حتى يتعافى مما أصابه من أزمات، والبعض يحتاج لطيبة الروح حتى يرى ببصيرته أن هي الدنيا بين طياتها “الشين والزين” وأن عليه أن يتحمل مرها كما يستمتع بحلوها. علينا جميعًا أن نتماسك في وجه المصائب.. فلنتحمل ولنتقبل بعضنا في ظروف الحرب اللعينة مثلما تحملنا بعض أيام الخير والرخاء.
Leave a Reply