
تحليل: الهدف
في واحدة من أكثر الكوارث المأساوية التي هزت الوجدان السوداني خلال الأشهر الماضية، لقي ما لا يقل عن 50 مواطنًا مصرعهم في انهيار منجم تقليدي للذهب بمنطقة “هويد”، الواقعة على الحدود بين ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل. هذه الحادثة لا تُجسد فحسب بؤس الواقع السوداني المتردي، بل تكشف عن عمق الإهمال الممنهج والفساد الذي يحكم قطاع التعدين، محولاً باطن الأرض إلى فخ موت صامت للباحثين عن لقمة العيش.
موت معلن في غياب الدولة ومؤسساتها
منذ اللحظات الأولى لوقوع الحادث، تناقل المواطنون صورًا مروعة تُظهر جثث الضحايا وهي تُنتشل من تحت الأنقاض بأدوات بدائية، مما يعكس غيابًا مطبقًا لفرق الإنقاذ المؤهلة أو أي تجهيزات طوارئ من الجهات الحكومية المختصة. هذه ليست المرة الأولى التي تنهار فيها مناجم التعدين التقليدي في السودان، فقد شهدت البلاد حوادث مماثلة عديدة، لكن كارثة “هويد” تُعد واحدة من أشدها دموية في الآونة الأخيرة. هذه الكارثة تُعيد بقوة إلى الواجهة السؤال الجوهري والمؤرق: من يحمي المعدنين الفقراء في هذه المواقع الخطرة؟ ومن يُحاسب المسؤولين عن هذه المجازر الصامتة التي تتكرر بلا رادع؟
الذهب ثروة للأقوياء وموتٌ للفقراء.. معادلة مشوهة
تُقدَّر عوائد السودان من الذهب بمليارات الدولارات سنويًا، ما يجعله أحد أهم مصادر الدخل القومي. ولكن على النقيض تمامًا، لا تزال مناجم التعدين التقليدي تفتقر لأبسط معايير السلامة المهنية والرقابة البيئية اللازمة. يُترك المعدِّنون – وغالبيتهم العظمى من الشباب والرجال الفقراء – فريسة للانهيارات الأرضية المفاجئة، والتعرض للغازات السامة القاتلة، والحرارة الخانقة داخل الأنفاق البدائية والآبار العشوائية، كل ذلك طمعًا في حفنة جرامات من الذهب قد تسد رمق أسرهم وتُبعد عنهم شبح الجوع.
يتحوّل الذهب في السودان، بهذه الطريقة، لا إلى ثروة وطنية تساهم في التنمية المستدامة، بل إلى مصيدة موت محققة للفقراء. هذا الواقع الأليم ينعكس في ظل نظام اقتصادي مشوَّه، تُسيطر فيه شبكات مصالح نافذة، تمتد من شركات الامتياز الكبرى إلى سماسرة الذهب في الأسواق، مستفيدة من الفوضى وغياب القانون على حساب أرواح العمال.
حادثة “هويد”.. جريمة متكررة بلا عقاب
تُعد منطقة “هويد” مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة ومؤلمة من الكوارث المشابهة التي شهدتها مناطق تعدين أخرى في السودان، مثل قبقبة، العبيدية، سوق طواحين نهر النيل، تلودي، جبل عامر وغيرها. ورغم أن أسباب هذه الحوادث معروفة ومتكررة – بدءًا من غياب التخطيط السليم، مرورًا بانعدام الرقابة الفعالة، وانهيار البنية الأساسية للسلامة، وصولاً إلى التجاهل التام للمخاطر المحتملة – إلا أن رد فعل الدولة غالبًا ما يكون قاصرًا، فلا تتحرك إلا بعد وقوع الكارثة، وغالبًا ما يكون تحركها إعلاميًا ورمزيًا بلا أثر فعلي على الأرض أو تغيير حقيقي للوضع.
فاجعة “هويد” جريمة إهمال ممنهج
من هنا، وبوضوح وبلا مواربة ما حدث في “هويد” ليست فاجعة طبيعية قدرية، بل هي جريمة مكتملة الأركان بفعل الإهمال المنظم، والتقاعس المؤسسي المتعمد، واستباحة حياة المواطنين الفقراء في سبيل الربح السريع وغير المشروع.
إن صمت الحكومة، وتواطؤ إدارات التعدين المسؤولة، وتجاهل النخب السياسية والاقتصادية لهذه الأرواح، يجعل من هذه الحوادث المتكررة جرائم سياسية واقتصادية بامتياز. فحين يُدفن عشرات المواطنين الأبرياء في مناجم الموت بهذه الطريقة المأساوية، ولا تُفتح تحقيقات شفافة ومحايدة، ولا تُحاسب أي جهة مسؤولة عن هذا الإهمال الجسيم، فإن أرواح هؤلاء تُزهق مرتين: مرة تحت الركام، ومرة أخرى تحت ركام التجاهل والنسيان والإفلات من العقاب.
الطريق إلى العدالة.. خطوات لا غنى عنها
إن الوضع الراهن يستدعي تحركًا عاجلاً وحاسمًا لضمان حقوق هؤلاء الضحايا وأسرهم، ولتفادي تكرار مثل هذه المآسي. إن الطريق إلى العدالة يتطلب خطوات عملية وملموسة:
- وقف فوري للتعدين التقليدي في المواقع الخطرة وغير الآمنة، إلى حين توفر بيئة عمل تضمن أعلى معايير السلامة.
- تحقيق شفاف ومستقل في كارثة “هويد” وكل الحوادث المماثلة، يكشف الأسباب والمسؤولين.
- محاسبة كل من قصّر في أداء واجبه، أو تستر على المخالفات، أو استفاد من الفوضى وغياب الرقابة في هذا القطاع.
- إعادة هيكلة شاملة لقطاع التعدين في السودان، بما يضمن العدالة الاقتصادية، وسلامة الإنسان، وحماية البيئة، بعيدًا عن سطوة شبكات المصالح الفاسدة.
الرحمة للضحايا الأبرياء، والعدل لأسرهم، والنصر لشعب لا يزال يُقاوم في كل الميادين.. حتى في باطن الأرض بحثًا عن الحياة والكرامة.
Leave a Reply