
بقلم: أ. ماجد الغوث – أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة السلسلة: سؤال الهوية في زمن التحولات
في زمن التسارع الرقمي، والانفجارات الجيوسياسية، والضغوط الثقافية العولمية، يبدو سؤال الهوية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لم يعد “من نحن؟” سؤالًا تعريفيًا بسيطًا، بل بات سؤالًا وجوديًا حادًا يقف في مفترق طرق بين الاستمرار والذوبان، بين التماهي مع الآخر والانكفاء المرضي على الذات.
الهوية، بهذا المعنى، ليست كيانًا ثابتًا أو تعريفًا جاهزًا يُعلّق على الجدران، بل هي بناء حيّ، تراكمي، متحول، يتشكل عبر الزمن من تفاعل معقّد بين الدين، اللغة، التاريخ، الجغرافيا، والمخيال الثقافي الشعبي. إنها ليست ما نقوله عن أنفسنا، بل ما يتكون من داخلنا في لحظة اختبار، حين ننكشف أمام العالم أو ننكسر في داخله.
لقد أدّى الانفجار العربي – من الثورات إلى الحروب، ومن الهجرات إلى الانكفاءات – إلى تسريع تفكك الهويات التقليدية، وولادة هويات هجينة، قلقة، أو حتى اصطناعية. ومجتمعاتنا، التي كانت تتكئ طويلًا على “بداهة الهوية”، وجدت نفسها فجأة تواجه السؤال الذي تأجل طويلًا: من نحن، فعلًا؟ وعلى أي أرض رمزية نقف؟
تأتي هذه السلسلة كمحاولة لتفكيك هذا السؤال المركّب، عبر قراءة فاحصة لمكونات الهوية الجمعية، من الدين واللغة إلى الصوفية والقبيلة والنخبة المثقفة. وهي لا تكتفي بالوصف أو الحنين، بل تنطلق من فرضية مركزية: أن الهوية ليست تركة الماضي، بل مشروع المستقبل.
السودان، في هذه السلسلة، ليس مجرد حالة محلية، بل نموذجًا معبّرًا عن الهويات المتعددة والمتراكبة، وعن مأزق التوفيق بين الانتماء العربي، والإرث الإفريقي، والتطلعات الحديثة. من هنا، فإن قراءة الهوية السودانية ليست فقط فعلًا تحليليًا، بل فعل مقاومة رمزية ضد التبسيط، وضد التنميط، وضد الاستلاب.
إن فهمنا للهوية اليوم لا يجب أن يكون بحثًا عن أصل نقي أو مركز ثابت، بل عن قدرة جماعة ما – كالسودانيين – على تحويل تنوعها إلى ثراء، وصراعاتها إلى طاقة، وذاكرتها الجريحة إلى مشروع وطني جامع. هذه ليست دعوة لهوية نقية، بل لهوية نقدية، تعي ذاتها وهي تتشكل، وتقاوم وهي تُروى.
هذه السلسلة لا تزعم امتلاك الإجابة، لكنها تطمح لأن تطرح الأسئلة اللازمة، بأسلوب تحليلي رصين، ومفردات معرفية دقيقة، وسقف فلسفي يليق بأمة تبحث عن صورتها في مرآة مكسورة.
الدين بوصفه إطارًا رمزيًا للقيم والتصورات الكونية في تشكّل الهوية السودانية(1 – 8)
تمهيد: حين نتأمل الدين لا بوصفه طقسًا أو شعائر، بل كبنية رمزية شاملة، فإننا نرتقي به من مجرد منظومة إيمانية إلى منظومة إدراكية كبرى. إنه الطريقة التي يرى بها الإنسان العالم، ويؤسس عبرها منظومة القيم التي تحكم علاقته بالذات، والآخر، والكون، والمصير. في هذا السياق، يشكل الدين في المجتمعات العربية الإسلامية، وعلى وجه الخصوص في الحالة السودانية، إحدى البُنى التكوينية الأساسية للهوية، ليس فقط كمرجعية روحية، بل كمرآة كونية تُصاغ من خلالها معاني الوجود، والحقيقة، والانتماء.
في أزمنة الاضطراب الاجتماعي والسياسي، يعود الدين ليحتل موقعه كمحرّك رمزي للفهم الجمعي، وكمخزون تأويلي لمعنى الإنسان والكون والعدالة. وفي الحالة السودانية، لا يمكن فهم الهوية الجماعية أو الوعي الوطني إلا باستيعاب الدين بوصفه بنية تحتية رمزية تتجاوز كونه شعائر أو طقوسًا، لتصبح نظامًا تأويليًا يُشكّل كيف نرى أنفسنا، والآخر، والزمن، والمصير.
إن الدين في المجتمعات العربية الإسلامية، كما يشير محمد عابد الجابري، ليس مجرد (إيمان فردي) بل هو (أداة لبناء النظام الاجتماعي). وبالعودة إلى السياق السوداني، نجد أن هذا البعد يتضخّم نظرًا لتعدّد الهويات الفرعية (القبلية، الجهوية، الثقافية)، مما يجعل من الدين ليس مجرد مكوّن، بل العنصر الأكثر تداخلاً في صوغ (الخيال الجمعي) للسودانيين.
الدين، في المجتمعات العربية الإسلامية، ليس مجرد منظومة اعتقادية أو طقوسية؛ بل هو البنية العميقة التي تتخلل وجدان الأفراد وتشكل رؤيتهم للعالم والوجود والآخر والزمن. إنه، بهذا المعنى، ليس (جزءًا) من الهوية، بل هو ما يمنح الأجزاء انسجامها وتأويلها، ويمنح الذات الفردية والجماعية أفقًا للمعنى وسياقًا للانتماء. فحين ننظر في المرآة الثقافية لأنفسنا، لا نرى فقط ملامحنا الإثنية أو اللغوية، بل نرى أنفسنا وقد وُضعت على جبيننا بصمة اللاهوت، وتحت جلدنا رواسب النبوة، وفي صوتنا صدى التلاوة.
حين ننظر إلى الدين كبنية رمزية، نجد أنه يؤسس شبكة مفاهيمية لتسمية الخير والشر، العدالة والظلم، الصبر والاحتساب، والتضحية والخلاص. وهذا يتوافق مع أطروحة كليفورد غيرتز حول (الدين كبنية من الرموز تمنح العالم معناه). فالدين هنا ليس مجرد تفسير للعالم، بل نمط وجودي يُعاش عبر اللغة، والطقس، والعادة، والاستعارة.
وفي السودان، الذي تتقاطع فيه العروبة بالإفريقية، وتحتك فيه طرق التصوف بالفكر السلفي، وتتمازج فيه الذاكرة الإسلامية بالأعراف الشعبية، تبدو الهوية الدينية كساحة جدلية تتصارع فيها قوى التأويل والسيطرة والرمز. فالزوايا الصوفية، ومجالس الذكر، وأهازيج الحماسة، وأناشيد (الحقيبة)، بل وحتى الأدعية الشعبية التي ترافق الحياة اليومية (الله لا كسر ليك ضهر)، كلها تشكّل ما يمكن تسميته بـ(الإسلام الشعبي) الذي يتجاوز المؤسسة الفقهية، ليُعبّر عن التدين بوصفه أسلوب حياة.
هذا التداخل بين الدين والهوية يتجلى أيضًا في لحظات التحوّل الوطني. فقد كان الدين في السودان، كما في معظم تجارب ما بعد الاستعمار، هو الحاضن الرمزي لمشروع الاستقلال، ومصدر الشرعية الأخلاقية لمناهضة الاستعمار. لكنه، في فترات لاحقة، تحوّل إلى أداة للاستقطاب، كما حدث في العهد المايوي وفي تجربة الإنقاذ، حيث أُعيد تأويل الدين ليصبح أداة للضبط الاجتماعي وتبرير السلطوية، في انزياح واضح من (الدين كأفق خلاص) إلى (الدين كأداة هيمنة).
وهنا يكمن التحدي: حين تتحوّل الرمزية الدينية من كونها تعبيرًا عن المطلق، إلى كونها واجهة للسيطرة، ينقلب الدين من كونه بُعدًا جامعًا إلى عنصر تفتيت وإقصاء. وقد أشار عبد الإله بلقزيز إلى هذا المفصل حين كتب: (ما لم يُفكّ ارتباط الدين بالهيمنة، فلن نتمكن من إعادة تفعيله كمجال للتحرّر).
أما في تشكيل الهوية، فإن الدين في السودان لا يمكن فصله عن الطبقات الرمزية الأخرى للانتماء، كالقبيلة، واللغة، والتاريخ. لكنّه، بخلاف هذه المكونات، يمتاز بكونه يتجاوز الزمان والمكان، ليُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية على مستوى (القداسة). فحين تَستدعي قبيلة ما نسبها إلى الرسول، أو حين تُحتفل المواسم الصوفية على امتداد السودان، فإننا إزاء ممارسة تُعيد صوغ المعنى الاجتماعي من خلال الرمزية الدينية.
الدين ليس فقط خطابًا؛ بل ممارسة اجتماعية متجذّرة، تنعكس في كل تفاصيل الحياة: من المثل الشعبي، إلى نظرة الناس للموت، إلى تبريرهم للمعاناة اليومية. إن الدين لا يُفهم فقط في المساجد أو الكتب، بل في (الحَوْقلة) التي تُطلقها المرأة الكادحة، وفي (الاستغفار) الذي يسبق الفجر في الريف، وفي “البركة” التي تُرجى من قبر وليّ. إنه حاضن الوجدان، ومبرّر المعاناة، وعزاء الحياة.
وإذا كان بعض المفكرين، كطه عبد الرحمن، قد رأوا أن الهوية في المجتمعات الإسلامية لا تتكوّن من (فوق) بل (من باطن الوجدان)، فإن الدين هو تجلّي هذا الباطن. وهو بذلك، ليس فقط مكوّنًا من مكوّنات الهوية، بل (النَفَس التأويلي) الذي يمنح المكوّنات الأخرى (اللغة، القبيلة، التاريخ) شرعيتها الرمزية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في تحرير الدين من اختطافه باسم السياسة، أو من تجميده باسم (التدين الشكلي). نحن بحاجة إلى إعادة توظيف الدين كأفق نقدي، لا كسلطة رمزية. فالدين الذي لا يواجه الظلم، ولا يحرّض على العدالة، ولا ينحاز للمهمّش، هو دين منزوع الدسم، يتحوّل إلى واجهةٍ باردة لا تُلهم ولا تغيّر.
وهذا لا يكون إلا عبر استعادة الدين كمجال حيوي للتأويل، لا كمجال مغلق للفتوى؛ وعبر تفكيك علاقة الهيمنة التي تربطه بالسلطة السياسية أو الطائفية؛ وعبر إحياء وظيفته الأصلية: أن يكون أداة للإنسان كي يفهم نفسه، لا سوطًا ليُهزم به الآخر.
في النهاية، يمكننا القول إن الدين في الهوية السودانية ليس مجرد ماضٍ مقدس، بل أفقٌ مفتوح. إنّه طاقة رمزية قابلة للتأويل، والرهان هو كيف نحمي هذه الطاقة من التحوّل إلى قيد، وكيف نستعيدها لتصبح بوصلة لمستقبل يتّسع للكل، ويمنح للهوية السودانية إمكانية أن تكون مركبة، ديناميكية، ومتصالحة مع تعدّدها.
Leave a Reply