اتفاق سلام بين الكنغو ورواندا.. واشنطن الرابح الأكبر

تقرير: خالد ضياء الدين

#الهدف_متابعات

في خطوة وصفت بالتاريخية، شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن يوم الجمعة توقيع اتفاق سلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية رواندا، برعاية أمريكية مباشرة. يهدف هذا الاتفاق إلى إنهاء عقود طويلة من النزاع المسلح الذي عصف بشرق الكونغو ومنطقة البحيرات العظمى بأسرها. وقد حضر حفل التوقيع في واشنطن شخصيات بارزة، على رأسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ووزير خارجيته ماركو روبيو، إلى جانب وزيري خارجية الدولتين المتنازعتين، في مشهد يؤكد الأهمية الاستراتيجية للاتفاق والدور الأمريكي المحوري.

وينص الاتفاق على بنود محورية تهدف إلى تحقيق الاستقرار المستدام: انسحاب القوات الرواندية من منطقة البحيرات العظمى خلال 90 يومًا، وتأسيس آلية أمنية مشتركة بين الدولتين خلال 30 يومًا لضمان الأمن الإقليمي. كما يقضي الاتفاق بوقف دعم الفصائل المسلحة التي طالما غذت الصراع، مثل “حركة 23 مارس” (M23) و”القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR)، ويؤكد على احترام سيادة الدولتين وتكوين هيئة تنسيق أمني. وتشمل بنود الاتفاق كذلك التعاون الاقتصادي، خاصة في مجالات التعدين، وهي نقطة محورية أثارت العديد من التساؤلات حول المصالح الكامنة وراء هذا السلام.

خلفية الصراع: إرث من الدماء والثروات المعدنية

تقع الجارتان الكونغو ورواندا في قلب إفريقيَا، وتحدان العديد من الدول، مع إطلالة للكونغو على المحيط الأطلسي عبر نهر الكونغو. وتعد الدولتان غنيتين بالموارد الطبيعية، حيث تمتلكان احتياطيًا هائلًا من الذهب والمعادن الثمينة كالماس، النحاس، الكوبالت، الزنك، واليورانيوم. ويُعد أكبر منجم ذهب في إفريقيَا موجودًا في جمهورية الكونغو، بالقرب من مدينة “دوكو”، على بُعد 210 كيلومترات من الحدود مع أوغندا. وتغطي المنطقة غابات مطيرة، وجبال ووديان خصبة، كما تمتاز الكونغو بفنونها وموسيقاها الغنية.

تاريخيًا، بدأت الاضطرابات السياسية في الكونغو عقب استقلالها عن بلجيكا عام 1960، واستمرت حتى عام 1966 بوصول الرئيس موبوتو للحكم. عادت الحروب الأهلية لاحقًا، ودخلت البلاد في صراع نفوذ أمريكي ضد الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة. تلك الحروب أدت إلى مقتل أكثر من 100 ألف شخص خلال صراعات محتدمة في الثمانينيات والتسعينيات.

في رواندا، اندلعت حرب قبلية مروعة بين قبيلتي الهوتو والتوتسي بين عامي 1990 و1994. هذا الصراع، الذي كان في الأصل بين جيش الحكومة وجبهة المعارضة الرواندية، اتخذ طابعًا قبليًا وعنصريًا تم تغذيته بشكل منهجي. وقد أسفرت مجزرة الإبادة التي وقعت بين 1990 و1994 عن مقتل نحو 800 ألف شخص، ما تسبب في فَرَار آلاف من الهوتو باتجاه شرق الكونغو، الأمر الذي أدى إلى تدخلات رواندية متكررة ومتشابكة في الأراضي الكونغولية.

ظلت العلاقات بين الدولتين بين شد وجذب لعقود. ففي عام 2022، تدخلت رواندا عسكريًا لقلب نظام الكونغو لمصلحة المعارضة ممثلة في “حركة 23 مارس” (M23). هذا الصراع الطويل بين البلدين مرتبط بالصراع العرقي في رواندا، والتدخلات الخارجية، وفرار الآلاف من قبيلة الهوتو إلى شرق الكونغو للاحتماء بها من التصفيات العرقية. كما أنه صراع موارد في مناطق شرق الكونغو الغنية بالمعادن التي تستهدفها القوى الإقليمية والدولية. منذ عام 2022، اتُهمت رواندا بدعم حركة M23، وهو ما نفته كيغالي باستمرار، بينما تصر كينشاسا على وجود تدخلات عسكرية واقتصادية رواندية تستهدف إضعاف سيطرتها على مواردها الطبيعية.

ترحيب الخبراء وتطلعات العودة

لقي الاتفاق ترحيبًا أمميًا ودوليًا واسعًا، حيث أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن ترحيبه بالتوقيع على مسودة اتفاق السلام في واشنطن، معربًا عن أمله في إنهاء الصراع بين الدولتين وتحقيق استقرار في المنطقة. أشار غوتيريش إلى أنها تمثل “فرصة حقيقية لتحقيق استقرار المنطقة وإيقاف العنف”، وهو أمل مرهون بالتزام الدولتين ببنود الاتفاق وبرعايته من المجتمع الدولي.

من جانبه، وبحسب تقارير إعلامية، علّق هارولد أتشماه، المحلل السياسي والدبلوماسي الأوغندي المتقاعد، قائلاً إن “مئات الآلاف من النازحين واللاجئين يمكنهم العودة إلى منازلهم… خاصة النساء والأطفال”. كما عبّرت لجنة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن تفاؤلها بقدرة هذا الاتفاق على تسهيل عودة النازحين وضمان وصول المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها.

بيد أن هذا التفاؤل لم يخلُ من دعوات إلى اليقظة والرقابة. فقد رأى ستيفان غوتغيبور من منظمة “أطباء بلا حدود” أن التوقيع يمثل خطوة إيجابية، لكنه شدد على أن “السلام يتطلب مراقبة مكثفة وضمان تفكيك الميل-شيات” لضمان عدم عودة العنف، مؤكداً أن مجرد التوقيع ليس كافياً.

استراتيجية اقتصادية وجيوسياسية جديدة

لم يكن حضور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتأكيده الصريح على أن الاتفاق يمنح الولايات المتحدة “حقوقًا كبيرة في متفجرات التعدين بالكونغو” مجرد تصريح عابر. بل يوحي بأن واشنطن تسعى لتحويل هذا السلام إلى مكاسب استراتيجية ضخمة، خصوصًا في قطاع المعادن الحيوية مثل الكوبالت والليثيوم، الضروريين لصناعة الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحديثة. واشنطن، بدورها، كانت حريصة على ضمان مصالحها أثناء رعايتها لاتفاق السلام، واهتمت بإعلان تطلعاتها الاقتصادية في المنطقة، خاصة في الكونغو التي تعد كنزاً من هذه المعادن التي تحتاجها أمريكا بشدة.

في الوقت نفسه، يُنظر إلى الصين كطرف متأثر بشكل مباشر بهذا التحوّل، حيث كانت تعتمد بشكل كبير على الكونغو في تأمين مواردها الحيوية. ويأتي هذا الاتفاق في سياق سباق دبلوماسي واقتصادي مستمر بين القوتين العالميتين، الولايات المتحدة والصين، على النفوذ في إفريقيا ومواردها الاستراتيجية.

جلوس ترامب بين وزيري الخارجية الرواندي والكونغولي في البيت الأبيض أثناء التوقيع، وسرعة مد قلمه للوزير للتوقيع، لم يكن أمرًا مستغربًا في هذا السياق الجيوسياسي الذي يسعى لتأكيد هيمنة واشنطن. والملاحظ أن دولة قطر، التي كانت قد بادرت بدعم الحُوَار ورعته في مراحله الأولى، قد انسحبت من المشهد لصالح واشنطن، التي أكملت فصول الاتفاق بعد ضمان حقوق التعدين الأمريكية، مما يمثل انتصارًا في مواجهة منافسها التقليدي: الصين.

نقائص العدالة وتحديات التنفيذ

مع أن الاتفاق يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الجارتين، فإنه أثار تساؤلات جدية حول غياب آليات محاسبة لمسؤولي جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت خلال عقود الصراع. وهو ما أبرزته تقارير الأمم المتحدة حول أزمة التمويل واستمرار التحقيقات في تلك الانتهاكات دون نتائج ملموسة حتى الآن. ويرى المراقبون أن هذه الثغرة ما كان يجب التغاضي عنها، لو صلحت النوايا بتغيير حقيقي في المشهد السياسي والاقتصادي.

كما أن الاتفاق لم يشمل فصائل مسلحة مهمة ومؤثرة مثل حركة M23، مما يثير شكوكًا جدية حول مدى إمكانية تطبيق كل بنوده على الأرض وضمان تحقيق سلام مستدام وشامل. فالاتفاق يقضي بخفض التوتر ومنع دعم فصائل التمرد في الدولتين، ويهدف إلى إغلاق صفحات العنف بتحييد “حركة 23 مارس” في الكونغو و”القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، ويؤكد على احترام سيادة الدولتين وتكوين هيئة تنسيق أمني، إلا أن عدم إشراك جميع الأطراف المسلحة قد يكون نقطة ضعف تعيق التنفيذ الكامل.

واشنطن هي الرابح الأكبر

يمثل اتفاق السلام بين رواندا والكونغو فرصة مهمة لإحداث تحول إيجابي في منطقة عانت من صراع طويل ودمار هائل. فهو يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين، وإدخال الاستثمار الغربي الذي تشتد الحاجة إليه في قطاع التعدين. كما قال مسؤولون في حكومة الكونغو إنهم متفائلون حيال الاستثمارات الأمريكية في المعادن الحيوية، وبدعمها لإنهاء التمرد في شرق الكونغو (مناطق التعدين).

لكن النجاح الفعلي لهذا الاتفاق يتوقف بشكل كبير على القدرة على تطبيقه بفعالية على الأرض، ومراقبته دوليًا بشكل صارم، وضمان تحقيق العدالة الانتقالية لضحايا الصراع، وهي نقطة حرجة قد تهدد استدامته. عليه، يمكن القول إن اتفاق السلام بين رواندا والكونغو يمكنه أن ينهي المواجهات العسكرية ويحقق نوعًا من الاستقرار، لكن الحاصد الأكبر لثماره هي الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التحول جعل التوقيع على الاتفاقية ساحة لصراع النفوذ العالمي، تمامًا كما كانت المنطقة ساحة للصراع المسلح من قبل، مما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذا “السلام” ومن يخدم في المقام الأول.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.