
في فجر الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1935، أبصرت النور في بيروت طفلةٌ قُدّر لها أن تُصبح أيقونةً للزمن الجميل، ورمزًا لصوت لبنان الخالد. إنها نهاد رزق وديع حداد، المعروفة بلقبها الأثير “فيروز”. بدأت رحلتها الفنية مبكرًا، ففي السادسة من عمرها، احتضنها كورال الإذاعة اللبنانية عام 1940، لتبدأ مسيرتها التي أثمرت ما يقارب 800 أغنية وأوبريت، نسجت معظمها بتلحين زوجها الراحل عاصي الرحباني وشقيقه منصور الرحباني. لا تزال فيروز، حتى يومنا هذا، واحدة من أقدم الفنانين العالميين المستمرين في العطاء، وتُصنّف ضمن أروع الأصوات العربية والعالمية، وقد حصدت مسيرتها الفنية العديد من الجوائز والأوسمة الدولية الرفيعة.
من زقاق البلاط إلى قمة الفن
ولدت فيروز في حارة زقاق البلاط ببيروت، ونشأت في كنف عائلة سريانية كاثوليكية متواضعة. كان والدها، وديع حداد، يعمل في مطبعة جريدة “لوريون” اللبنانية، التي ما زالت تصدر باللغة الفرنسية حتى اليوم. أما والدتها، ليزا البستاني، فكانت لبنانية مسيحية مارونية، وقد توفيت يومًا حزيناً صادف تسجيل فيروز لأغنيتها الخالدة “يا جارة الوادي” التي لحّنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. بعد زواجها من عاصي الرحباني، تحولت فيروز إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. رزقها الله بأربعة أبناء: الملحن وعازف البيانو المبدع زياد الرحباني، ليال الرحباني، ريما الرحباني، وهالي الرحباني.
صوتٌ يسبق عصره
اكتشف الموسيقار محمد فليفل صوت فيروز وهي تغني في كورس الإذاعة اللبنانية، فضمها إلى فريق الإنشاد الوطني. لاحقاً، تولى حليم الرومي، مدير الإذاعة آنذاك، تأليف أغانيها. لكن الانطلاقة الحقيقية لمسيرة فيروز الفنية جاءت عام 1952، عندما بدأت الغناء بألحان الموسيقار عاصي الرحباني، الذي أصبح فيما بعد شريك حياتها ورفيق دربها الفني. شكّلت هذه الفترة، بالتعاون مع الأخوين الرحباني، منعطفًا موسيقيًا جديدًا في تاريخ الموسيقى العربية، حيث مزجوا ببراعة بين النمطين الغربي والشرقي، وأضفوا عليها ألوانًا لبنانية أصيلة. ساعد صوت فيروز الانسيابي والمرن في عبور الحدود الموسيقية والانتقال بالغناء إلى آفاق جديدة في كل مرة.
تميّزت فيروز بتقديم الأغاني القصيرة في زمن كانت فيه الأغاني الطويلة هي السائدة. تنوعت مواضيع أغانيها بين الحب والأطفال والقدس والحزن والفرح والأم والوطن، لتلامس كل زاوية من زوايا الروح الإنسانية. غنت لأساطين الشعر والتلحين، ولتخليد ملوك ورؤساء، وأطربت الجماهير في كبريات المهرجانات حول العالم العربي. وقد أطلق عليها الشاعر الكبير سعيد عقل لقب “سفيرتنا إلى النجوم”، تعبيراً عن رقي صوتها وتفرده الذي سمى بها إلى علياء الفن.
من ذاكرة فيروز
تضم مسيرة فيروز الفنية إرثاً غنياً من الأعمال الخالدة، منها:
- المسرحيات: “جسر القمر”، “الليل والقنديل”، “بياع الخواتم”، “أيام فخر الدين”، و”هالة والملك”.
- برامج التلفزيون: “برنامج الإسوارة” عام 1963، و”دفاتر الليل” عام 1971.
- مشاهد مسرحية قصيرة (سكتشات): “سكتش النطور”، “مسرح الضيعة”، “رابوق”، “عصفورتي”، و”عودة الصنوبر”.
- القصائد المغناة: على الرغم من قلتها مقارنة بإجمالي أغانيها، إلا أنها تُعد من أروع ما قدمت، مثل: “خذني بعينيك”، “الآن الآن وليس غداً”، “زهرة المدائن”، “أعطني الناي وغني”، “أحب من الأسماء”، و”لما بدا يتثنى”.
- الأغاني الوطنية: “بحبك يا لبنان”، “يا حرية”، “أنا لا أنساك فلسطينُ”، “القدس العتيقة”، و”يا هوى بيروت”.
- الألبومات الغنائية: “ألبوم القس في البال”، “الليل والقنديل”، “المحطة”، “إلى عاصي”، “الإسوارة”، “الجمعة الحزينة”، و”أنا سهرانة”.
فيروز ليست مجرد مطربة، بل هي جزء من ذاكرة الوطن العربي، وشاهدة على عصور، وصوتٌ يتردد صداه في قلوب الملايين، محتفظة بمكانتها كقمة شامخة في سماء الفن العربي.
Leave a Reply