كفانا حزنًا

بقلم: د.توتا صلاح مبارك

رأيتها هناك… في الخرطوم، حين لم يكن زمانها قد تقمص الحرب… وفي إحدى نهاراتها الملتهبة بشمسٍ لا تملك إلا أن تلمع وتسطع وتحرق! لا أستطيع تحديد سن عمرها، لم تكن صغيرة تمامًا كما لم تكن كبيرة! كانت تقبع في “منطقة وسطى” يصعب أن تنتمي لإحداها! كانت تترنح ما بين القصر والطول، لم تكن قصيرة تمامًا ولم تكن مديدة الطول وإن راودته قليلًا! لم تكن ممتلئة القوام كما لم تكن نحيفة، فقط تبدو متماسكة البنية. لم تكن باهتة البشرة كما لم تكن داكنتها، كانت بين ذلك قوامًا!

كان يلف جسدها “توب” سوداني خلا من النقوش، أي “سادة” بقاموس التوصيف السوداني! لم يكن “التوب” يتوشح بلونٍ زاهٍ بل كان أقرب أن يكون رماديًا ساكنًا مملاً.

طفقت تتحدث كثيرًا وفي مواضيع متباينة، وباستغراق لا يدع المستمع إلا أن يكون منصتًا فقط حيث تنحسر مساحة المداخلات. كانت تسير غير عابئة بالنظر في الطريق أمامها، حتى عند تنبيهها لتجنب السير فوق غطاء حديدي لبئر لم تكترث بل تمتمت قائلة: “ما في عوجة” في ذات اللحظة التي وطأت فيها الغطاء الحديدي لينهار… وتسقط هي في داخل الهوة! يعلو صراخها المفزع الذي يجذب المارة لينتشلوها! خرجت كما لم يكن شيئًا، لتواصل حديثًا بدأ وكأنه لم ينقطع!

تناثر حزنٌ بائن ظلل كلماتها وهي تذكر بـ”حميمية” وشغف أشياءها الصغيرة مثل “عِدّتها” التي سُرِقت، وذلك في إشارة للأواني المنزلية والأطقم من أطباق وأكواب والتي تحرص المرأة السودانية على اقتنائها والاحتفاظ بها حتى دون استعمالها بنية الاحتفاء بضيوفٍ مرتقبين، قد لا يأتون أبدًا. واصلت حديثها بغبنٍ جلي عن فقدٍ لمقتنيات أُخر مثل ثلاجة وعربة وغيرها! تحدثت بنَفَسٍ متقطع عن غيابٍ وحزنٍ ودموع ولوعة وفراق!!! تحدثت عن حريق كبير ودخانٍ عتّم الآفاق!

انتصبت لحظات صمتٍ صاخب… لما نظرتُ إلى وجهها بدا كغمامة ذابت في الأفق البعيد… وتلاشت هي معه! توارت إلى حيث لا أدري….

لا أتخير أحلامي ولا أتصيدها، هي تأتي عندما يعنّ لها أن تأتي، تأتي من زحمة الماضي أو تهبط من غياهب القادم المجهول، فقط تأتي… قد تأتي من حيث لا ينبغي لها أن تأتي فأرى ما أود أن أرى! أو قد أرى ما لا أود أن أرى!

قال محمود درويش: “هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقق”.

لكني أقول: هل لي أن أختار أحلامي لئلا أحلم بما لا أريد أن يتحقق؟

لَكم كنت أود ألا أرى في “حلمي” ما رأيت فلا أحزن مرتين!!!!!

كفانا حزنًا

كفانا حربًا

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.