
أمجد السيد
في زمن تصاعدت فيه المزايدات باسم الدين، وتشوهت فيه صورة الدولة المدنية كثيرا ما يُساء فهم موقف حزب البعث العربي الاشتراكي من الدين فيُتهم تارة بالعلمنة المتطرفة وتارة بمحاربة الدين بينما هو في الحقيقة صاحب موقف حضاري عميق، يستند إلى فهم جدلي لعلاقة الدين بالإنسان والمجتمع والتاريخ.
كتب القائد المؤسس ميشيل عفلق في دراسته الشهيرة “ذكرى الرسول العربي” (1943)، ما أصبح لاحقا مرجعا في فهم نظرة البعث للدين حين قال: كان محمد كل العرب فليكن كل العرب محمدا
بهذا القول لا يُقدم الاستاذ ميشيل عفلق مجرد تحية للرسول محمد (ص) بل يعيد الاعتبار إلى الإسلام كظاهرة روحية وثقافية حررت الإنسان العربي وأطلقت فيه طاقات الإبداع والتوحيد والتجاوز لا يُنظر إلى الإسلا(م كسلطة أو أداة سياسية بل كنهضة كبرى أخرجت الأمة من الظلمات إلى النور.
وفي الدراسة نفسها، قال الأستاذ ميشيل عفلق (ليس من قومية عربية من دون الإسلام وليس من اسلام حقيقي من دون قومية عربية )
لكنه لم يختزل العروبة بالإسلام بل اعتبر الدين الإسلامي أحد تجليات الروح العربية الكبرى دون أن يكون مرجعية سلطوية تُفرض على جميع مكونات الأمة.
يُعد المفكر د. إلياس فرح من أبرز من نظّروا للعلاقة بين الدين والسياسة في فكر البعث وقد شدد في كتابه “نحو فكر عربي نهضوي معاصر” (1992) على أن(الدين في فكر البعث ليس نصا يفرض على الناس بل هو تجربة انسانية تتفاعل مع الواقع لا نريد للدين أن يُهمّش ولا نريده أن يُختزل في خطبة جمعة ولا أن يُستخدم سلاحا في يد السياسيين )
وأكد أن البعث يرى في الدين طاقة روحية لبناء الإنسان لكنه يرفض تحويله إلى أداة للتمييز أو سلطة سياسية لأن ذلك يشوّه جوهر الدين.
وفي مقالته “في العلمانية والدين” (منشورة في مجلة الفكر القومي – عدد خاص، 1988)، قال:(العلمانية التي نتبناها لاتعادي الدين بل تحميه من التسيس وتحمي الدولة من الطائفية وهي علمانية وطنية منبثقة من واقعنا التاريخي لا مستوردة من تجربة الغرب )
يرى حزب البعث أن الدين وبخاصة الإسلام جزء من هوية الأمة الحضارية ولكنه ليس هوية الدولة السياسية فالدولة في فكر البعث يجب أن تقوم على المواطنة المتساوية لا على الانتماء الديني. والسلطة لا تُمنح باسم الدين، بل باسم الشعب.
وقد أكد ذلك دستور الحزب المجاز في مؤتمره التأسيسي في نيسان/أبريل 1947 حين نصّ على أن (المواطنة هي أساس الحقوق المتساوية والواجبات وأن
شرعية السلطة مستمدة من إرادة الشعب في إطار نظام ديمقراطي نيابي تعددي )
شهد الوطن العربي والسودان في القلب منه موجات متتالية من استخدام الدين في السياسة من الجماعات التي تستخدم الدين لأغراض سياسية و التي حولت الدين إلى مشروع حزبي و إلى أنظمة قمعية استغلت الإسلام غطاءً للاستبداد.
في هذا السياق، يؤكّد حزب البعث أن من أراد أن يدافع عن الدين فليبعده عن السلطة ومن أراد دولة عادلة فليمنع أن يستخدم الدين سلاحا سياسيا
وهو ما شدد عليه أيضًا د. إلياس فرح حين كتب (المعركة اليوم ليست بين الإيمان والكفر بل بين الدين كقيمة والدين كسلطة ونحن مع الدين كقيمة وضد كل اشكال استخدامةلتبرير الظلم أو الفتنة )
(الفكر القومي – مقال: الدولة والدين في مشروع النهضة 1994)
إن مشروع البعث ليس دولة دينية تستأثر بالحقيقة باسم الله ولا دولة علمانية مستلبة من تراثها بل دولة مدنية ديمقراطية مستنيرة تستلهم من القيم الروحية للأمة دون أن تسلم قيادها لسلطة غيبية أو طائفية.
فهو مشروع يدمج بين الحرية الدينية والعدالة الاجتماعية ويؤمن بأن الدين في جوهره قوة للنهضة لا أداة للسلطة.
كما أن البعث يؤمن بأن تحرير الإنسان لا يتمّ إلا حين يتحرر ضميره ومعتقده من الإكراه وتتحرر الدولة من الاستبداد الديني والطائفي لتكون دولة لجميع مواطنيها.
ويظل قول القائد المؤسس ميشيل عفلق مدخلا لفهم فلسفة البعث تجاه الدين(لقد كان الدين طاقة الأمة في انبعاثها لكنه لايمكن أن يكون قيدا على نهضتها الجديدة بل يجب أن يكون سندا لحرية الانسان لاسيفا في يد السلطان )
Leave a Reply