
بقلم: أ.د. أمير محمد حسين
#ملف_الهدف_الثقافي
حين كانت جامعة الجزيرة، منارةً علمية في قلب السودان، تعيش أوج مجدها، كان معسكر النيشَيْشيبة واحةً معزولةً على أطراف ود مدني، تنام بين النيل ومزرعة الجامعة، وتستيقظ على هديل القمري. مكانٌ يُنسج فيه الإبداع، وتُعقد فيه صداقات لا تبليها السنون—في القاعات، على موائد الصالة، فوق تراب الملاعب، وفي ليالي الثقافة، التي كانت تمتد حتى ما بعد منتصف الليل، تملأ القلوب اليافعة بفرحٍ لا يُنسى. كانت تلك الألفة تصوغ العقول، وتبني نظامًا خرّج من رحمه خيرة مفكري البلاد.
كانت الشمس قرصًا داميًا يذوب في أفق الغروب حين خرجتُ من داخلية كرري. سرتُ على الطريق الأسفلتي المتعرّج، مررتُ بصالة الطعام، ثم مركز النشاط الطلابي، وكانت الحديقة إلى يميني، ساكنةً كأنها تصغي لتعب خطواتي. كان أسبوع الامتحانات قد بدأ، وذهني يطفو من فرط الإرهاق، كأنه قصب جاف في مهب الريح. لم أحتج إلى تفكير، بل تركتُ قلبي يقودني نحو العيادة الصغيرة.
ظهرت في الأفق، ساكنةً بين داخليات البنات ومنازل الأساتذة، كأنها تعرف من يأتيها تعبًا. في الداخل، استقبلني حسن الممرض، ومعه الباشحكيم إدريس، كأنما كنتُ ابنًا غاب وعاد. أخبرتهما عن الصداع، عن الثقل في رأسي.
أومأ إدريس لحسن وقال بنبرة واثقة، هامسة: “هات قرصين من البلاسيبو.”
تظاهرتُ أني لم أفهم الكلمة، لا لأني أجهل معناها، بل لأنني أحببت أن أصدّق. ناولني حسن قرصين صغيرين، بلا لون، بلا علامات. ابتلعتُهما وشربتُ وراءهما شايًا سكبه لي بنفسه—ساخنًا، داكنًا، يفوح برائحة الطمأنينة، كأنما صُبَّ من ذاكرة الأمهات. جلسنا معًا على المصطبة، لا حاجة للكلام. كان الليل يتهادى على أروقة الجامعة، والعالم من حولنا يهدأ في خشوعٍ يُشبه الصلاة. كنا ننسكب في الشاي كما ينسكب الشاي في الأكواب، نتبادل الضحكات الخافتة، ونحرس سكون المساء.
كان الهواء نقيًا، نديًّا قليلًا، والصمت ممتلئًا برفيف الجنادب، وهمس أوراق الأشجار، ونبضٍ خفيّ لا يسمعه إلا من هدّته الحياة. كل شيء بدا مؤقتًا… وكل شيء بدا أبديًا.
وحين عدتُ إلى داخليتي، كان رأسي خفيفًا كأنما غسلته السماء. وفي ذلك الأسبوع، اجتزتُ كل امتحان بجدارة. ولم أسألهم قطّ عمّا كان في تلك الحبوب.
Leave a Reply