
بقلم: زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
#ملف_الهدف_الثقافي
في قرية صغيرة تُدعى “الدردر” تقع على حدود تشاد والسودان، وُلد أبو حليمة. كانت المنازل هناك تُشيد من القش والطين الأخضر. يتميز أبو حليمة بطوله وعيونه الزرقاء اللامعة التي تبرز على بشرته السمراء، بينما يتطاير شعره القرمزي مع رياح الشتاء القاسية، حيث كانت الحيوانات تلجأ إلى الأشجار هربًا من شدة البرد.
منذ صغره، كان يرعى أغنام العائلة، يمضي أيامه بين المراعي والوديان. لم يدخل المدرسة بعد، لكن قلبه امتلأ بحب غريب للفن والموسيقى. في أحد الأيام، جاء راعٍ ضيف إلى المرعى، ومعه راديو صغير يُسمّى “البناسنك”. بعد أن تشارك معه وجبة الإفطار الشعبية “أم باشوشو” المصنوعة من الدقيق المجفف واللبن القارص، بدأ الراديو يغني، فانبهر أبو حليمة.
سأله الطفل: “بكم تبيعني هذا الراديو؟” ضحك الرجل وقال: “بثمن رأس عتود فقط.”
لم يتردد. عاد إلى الأغنام، أمسك بواحد من الماعز، وقدّمه للراعي دون أن يفكر. عاد بالراديو بين يديه كأنه كنز، وأول ما سمعه هو صوت العبْطرَاوي يغني: “أنا سوداني أنا أفريقي…”
كانت تلك اللحظة لحظة ولادة جديدة. قال لنفسه: “سأكون فنانًا، وسأغني لهذا الوطن.”
لكن الفرح لم يدم. حين عاد مساءً إلى القرية، فكّر: “كيف سأشرح غياب العتود لأبي؟” اختلق كذبة، قال له: “لقد افترسه الثعلب في الوادي.” صدّقه الأب، لكن الحقيقة لم تبقَ مدفونة طويلًا.
في اليوم التالي، رأى الأب العتود بين أغنام أحد الرعاة، فعرف الحقيقة. عاد إلى الوادي غاضبًا، وصرخ: “اخرج من بيتي. لم أعد أريدك هنا.”
خرج أبو حليمة من الوادي لا يحمل شيئًا إلا حلمًا. ذهب إلى أمه وهو يبتسم ابتسامة من فقد كل شيء وكسب نفسه. بكت الأم، لكنه قال لها: “يا أمي، أنا أقوى من هذا الكلام.”
ذهبت به إلى خاله في “الطينة”، وهناك التحق بالمدرسة لأول مرة. كان يغني في طابور الصباح، يملأ المكان بروح وطنية. أصبح محبوبًا بين زملائه، يشارك في كل أمسية ثقافية.
ثم اندلعت الحرب عام 2004. أُغلقت المدارس، وتشرد الناس إلى معسكر “أدري”. ومن هناك، تسلّل إلى العاصمة أنجمينا، وسجّل في معهد اللغات، وتعلم الفرنسية والإنجليزية، حتى نال الدبلوم.
وبينما هو يقرأ الجريدة، وجد إعلانًا: “مطلوب موظفون يجيدون الفرنسية والإنجليزية للعمل في مكتب الأمم المتحدة.” قدّم ونجح، وعُيّن في قسم رعاية الموهوبين. وهناك، أتيحت له الفرصة لدراسة الموسيقى. غنّى في حفلات السودانيين بأنجمينا، ونقل رسائل الثورة والوطن إلى أبناء الشتات.
سافر إلى باريس. أسس جمعية الثقافة السودانية. صار صوتًا فنيًا وثقافيًا يُمثل السودانيين في أوروبا. ومع اندلاع ثورة ديسمبر، عاد إلى الخرطوم، وغنى في ساحة الاعتصام. ثم ذهب إلى دارفور، حيث غنى بين الجبال والنازحين.
لكن القلب ظلّ معلقًا هناك… حيث بدأت الحكاية.
عاد إلى قريته بعد سبعة عشر عامًا من الغربة. استقبلته والدته بدموعٍ لا تشبه الفرح ولا الحزن، بل مزيجًا مقدسًا منهما. في جلسة عصر هادئة، ناولها صندوقًا صغيرًا من الذهب، وقال: “يا أمي، أنا أُحبك.” فقالت وهي تقبّله: “أنا معافاة لك في الدنيا والآخرة.” ثم بكت. فسألها: “لماذا تبكين؟” “تذكرتُ يوم قلت لي: (أنا أقوى من هذا الكلام). وها أنت أثبت ذلك.”
بعدها بيومين، عاد الأب من الزراعة، ولم يكن يتوقع أن يرى ابنه هكذا، رجلًا شامخًا، فاحتضنه، وقال له: “سامحني يا ولدي.” فرد أبو حليمة: “ما حدث كان بداية خيرٍ لنا جميعًا.”
قدّم لأبيه ظرفًا فيه عشرة آلاف دولار، ومفتاح سيارة جديدة من شركة “السهم الذهبي”. ثم غادر القرية متوجهًا إلى باريس، حيث انتُخب عضوًا في المجلس البلدي لدائرة الثقافة والفنون في ضاحية “لويس”.
لم يكن أبو حليمة مجرد فنان. لقد أصبح رمزًا… لمن يصعد من الوادي ليُصبح نهرًا.
Leave a Reply