الحوليات: والتاريخ الحولي (جدلية الزمن والسرد بين الشعر والتاريخ والذاكرة)

بقلم: أ. ماجد الغوث- أ. طارق أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
المقدمة: (التاريخ لا يُكتب مرة واحدة، بل يُروى عبر حوليات… تعيد تشكيل الزمن في ضوء الذاكرة). هذا القول المختزل يلخّص أحد أعمق التوترات في علاقة الإنسان بالزمن: هل نحن كائنات لحظية، أم أن هويتنا تتشكّل في دوائر تتكرر عبر اللغة والذكرى والتأريخ؟ ليست (الحولية) مصطلحًا جامدًا؛ بل هي ترميز ثقافي عميق يتجلى في الشعر، وفي السرد الصوفي، وفي أنماط التوثيق التاريخي، وفي احتفالات الزمن الدائري. ظهرت الحوليات بهذا الاسم منذ العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر ينظّم القصيدة في شهر، ويُهذبها في سنةٍ، فكانت قصائده تسمي الحوليات أو المُعلقات وتُعرف أيضاً بالمُذهبات والسُّمُوط والجاهليات والسّبع أو العشر الطّوال، وهي من أشهر ما كتب العرب وسُميت مُعلّقات. من هنا تنبع أهمية تحليل هذا المفهوم، لا كظاهرة لغوية أو تاريخية فحسب، بل كبنية ثقافية تحمل في طياتها تصوّرات أمة عن ماضيها، وعن الطريقة التي ترى بها ذاتها في الزمن.
اولاً: الحوليات في السودان: بين الشفاهة والمخطوط:
تتّسم تجربة الحوليات في السودان بخصوصية ثقافية مزدوجة: فمن جهة، هناك التراث الشفهي الغني الذي يتجلّى في الملاحم الشعبية، والسِيَر القبلية، والمجالس الصوفية، ومن جهة أخرى، توجد حوليات مكتوبة مثل وثائق المهدية، سجلات التجار الأقباط، وحوليات تحتمس الثالث. غير أن أغلب هذه المواد ظلّ حبيس المخطوطات أو الروايات الشفهية، دون أن يُدمج في مشروع تأريخي وطني واضح.
تشمل سجلات تاريخية مكتوبة توثق أحداثاً مهمة على مرّ العصور، يمكن أن تكون هذه السجلات عبارة عن نقوش على جدران المعابد أو وثائق مكتوبة بخط اليد أو حتى تسجيلات شفهية، وتلعب الحوليات دوراً حيوياً في فهم تاريخ السودان وتسليط الضوء على جوانب مختلفة من الحياة الإجتماعية والسياسية والدينية.
ويكمن التحدي في أن هذا التاريخ الموزّع بين الشفوي والمكتوب، بين الرسمي والشعبي، يحتاج إلى إعادة قراءته ضمن مقاربة نقدية، تدمج الأدوات الأنثروبولوجية، والفكر التاريخي البنيوي، مع استحضار الذاكرة الجماعية بوصفها سجلًا غير رسمي لكنه أصيل.
تكمن أهمية الحوليات في السودان، في الآتي:
5. فهم التاريخ السوداني في الازمنة البعيدة بقراءة بُنيات الحياة السائدة وقتها في الجوانب العسكرية والاجتماعية والدينية، وذلك، بعد تفكيك بُنية النصوص الموضوعة قيد النظر والتحليل، والخروج برؤية واضحة.
6. توثيق الأحداث التي مرت على المجتمع السوداني منذ فترة نشؤه وتكونه للأجيال الآتية.
7. الحفاظ على التراث السوداني بتنوعه المادي والمعنوي.
8. فهم التغيرات الإجتماعية، سلبا وإيجابا. ومدي انعكاساتها على الفرد السوداني ومحيطه الإجتماعي صعوداً وهبوطاً.
من أمثلة الحوليات في السودان:
5. حوليات تحتمس الثالث.
6. سجلات الممالك المسيحية
7. وثائق المهدية.
8. سجلات التجار الأقباط.
ثانياً: الحوليات السودانية المعاصرة: هل نملك سجلًا للحاضر؟:
رغم وجود محاولات حديثة لتوثيق التاريخ السوداني، خاصة في فترات الثورة وما بعدها، إلا أن غياب مشروع (حوليّات معاصرة) يجعل من كثير من الأحداث عرضة للضياع أو التشويه. وفي ظل توزّع السودان بين سرديات متعددة (الهوية، الدين، القومية، الجهوية)، تزداد الحاجة إلى مشروع أكاديمي وفكري يجمع هذه الأنساق في بنية سردية واحدة، تعترف بالاختلاف وتحتفي بالتعدد، دون أن تسقط في تمجيد الماضي أو تصفية الحاضر.
هناك تحديات في دراسة الحوليات السودانية، منها:
1. ندرة المصادر، فهناك حاجة لمزيد من الدراسات حول الحوليات السودانية بغرض كشف المطمور من حيوات أسلافنا في مجالات نشاطاتهم المختلفة والمتعددة.
2. صعوبة الوصول إلى المصادر التي توجد في أماكن بعيدة، او التي تُسيج بقوانيين الآخرين، مثل، تقييد فك الوثيقة أو المصدر بعد سنوات عدة، وهنا، قد تنتفي الحاجة إلى المصدر او قد تفقد المادة التي يتضمنها المصدر قيمتها التأريخية والمعرفية.
3. الحاجة إلى الترجمة، خاصة عندما تكون اللغة قديمة وتحتاج إلى مراكز متخصصة ومخصصة.
الخاتمة: إن التأريخ عبر الحوليات ليس فقط فعل تدوين، بل فعل مقاومة. مقاومة النسيان، مقاومة السلطة الأحادية، مقاومة التلاعب بالزمن. الحولية ليست سردًا للحوادث، بل (أدب زمني)، يُعيد ترتيب الذاكرة بعيون متعددة، وبأقلام ليست بالضرورة سلطوية. والسؤال الجذري اليوم: هل نمتلك نحن، السودانيين، أدواتنا الكافية لكتابة زمننا؟ أم سنظل ننتظر أن يكتبنا الآخر، الأوروبي أو العربي، في حولياته كما يشاء؟ ربما آن الأوان لتأسيس مشروع (حوليات السودان المعاصر)، ليس فقط لتوثيق الماضي، بل لإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والزمن، بين الجماعة والذاكرة، بين الوطن والتأريخ.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.