في الذكرى السادسة والثلاثين لرحيله: ميشيل عفلق.. مسيرة فكر ونضال متوجة بالدعوة إلى تلبية الضرورة التاريخية للديمقراطية

بقلم: د. عبده شحيتلي

وُلِد ميشيل يوسف عفلق في حي الميدان الدمشقي عام 1910. بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدرسة التجهيز، حصل على منحة للدراسة في فرنسا. قبل سفره، كان وعيه الوطني والقومي قد تشكّل بتأثير من عائلته المؤيدة للكتلة الوطنية، ومن خاله شكري زيدان الذي أثر في ثقافته التاريخية. سافر إلى فرنسا وهو في الثامنة عشرة من عمره ليواصل الدراسة في آداب السوربون ويتخصص في التاريخ. هناك، انخرط في النشاط الطلابي المنظم بطابعيه السياسي والأدبي-الثقافي، وأصبح عضوًا في جمعية الثقافة العربية والجمعية العربية السورية التي كانت تدعو إلى الوحدة العربية والدفاع عن فلسطين.

في باريس، تعرّف ميشيل عفلق على آراء نيتشه، وماركس، وديستوفسكي، وتولستوي، وبرغسون، وأندريه جيد، وغيرهم. تزاوج في فكره الاتجاه المعاصر الذي تجسده كتابات هؤلاء المفكرين والفلاسفة مع شغفه بالتاريخ، وهو مجال تخصصه. تبلورت عنده رؤية جديدة لتاريخ الأمة العربية وحضارتها، وواقعها، وما يحمله من إمكانيات للتحرر والنهضة. لقاؤه بالطلبة العرب من المشرق والمغرب، ومحاوراته معهم، عززت قناعاته بوحدة الأمة العربية، وبضرورة وجود عقيدة واحدة، وعمل سياسي منظم يجسد وحدة الوجدان العربي، ويتفاعل مع مشكلات الواقع السياسي العربي.

تعاهد عفلق مع صديقه صلاح الدين البيطار، طالب الفيزياء في السوربون، على تجسيد هذه الأفكار في عمل سياسي وطني منظم. عادا إلى سوريا ليتم تعيينهما في ثانوية التجهيز الأولى عام 1932، التي كانت أكبر مدارس المدينة وأهمها. ومنذ تعيينهما، شرعا في التبشير بالأفكار التي شكلت أطروحات الحزب الأولى. نشر عفلق عددًا من القصص القصيرة والقصائد التي تبين ملامح إبداعية لديه في هذا الميدان، لكنه انصرف عنها إلى تكريس حياته للعمل الفكري والسياسي الذي يبشر بالقومية العربية، ورسالة الأمة، واستعدادها للدخول في مرحلة ثورية تحررية ذات آفاق حضارية وإنسانية.

لاقت أفكاره استجابة واسعة من طلاب المدارس والجامعات والنخب الثقافية، الأمر الذي سمح بتأسيس أول جماعة سياسية ذات طابع قومي، تختلف عن سائر التنظيمات القطرية السورية، باسم “الإحياء العربي” عام 1941. استفاد هذا التنظيم الناشئ من مناسبة الانتخابات النيابية العامة سنة 1943 ليعلن عن مبادئه الأساسية، حيث أعلن الأستاذ عفلق عن ترشحه لهذه الانتخابات في بيان حمل لأول مرة شعار الحزب.

كان لا بد لهذا الانخراط في العمل الفكري-السياسي والنضال اليومي من التفرغ، لذلك قرر الأستاذان عفلق والبيطار الاستقالة من مهنة التدريس عام 1942. وقد نجحا في تكوين جماعة سياسية منظمة، تحمل اسم “شباب البعث العربي“، أخذت بالتوسع والانتشار، ليتم فتح أول مكتب للحزب في دمشق عام 1945. في هذا التاريخ، تم تنظيم أول حفل قسم حزبي حيث بلغ عدد الحزبيين المئات. وفي تموز من العام 1946، بدأ إصدار جريدة “البعث” اليومية، وكل ذلك مهد لمؤتمر الحزب الأول في نيسان 1947 حيث أُقر دستور الحزب ونظامه الداخلي وانتخب عفلق عميدًا له.

في نيسان 1948، قاد عفلق وزميله البيطار المتطوعين البعثيين في حرب فلسطين، بعد أن اتخذ مجلس الحزب المنعقد في حمص قرارًا بتجنيد جميع أعضائه للاشتراك في المجهود الحربي داخل البلاد العربية أو في خطوط فلسطين الأمامية، كما قرر إرسال أول كتيبة إلى الجبهة بقيادة لجنة الحزب التنفيذية.

يقول أحد قادة الجهاد المقدس في مدينة القدس في شهادة نقلها الأستاذ عبد المحسن أبو ميزر: “صباح يوم 27 نيسان 1947، زارني في مقر قيادتي في حي المصرارة الرئيس فاضل عبدالله رشيد، آمر حامية القدس التابعة لجيش الإنقاذ، وبرفقته الشيخ مصطفى السباعي، رئيس تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا، والأستاذ ميشيل عفلق، الأمين العام لحزب البعث العربي. وشاهدوا آثار معركة الليلة السابقة، وكان تعليقهم: مواقعكم قريبة جدًا من مواقع العدو، وصمودكم فيها بطولة، وأي تقدم للعدو في هذا القطاع يهدد المدينة بأكملها. وتقرر تعزيز دفاع حي المصرارة بثلاث مجموعات من جيش الإنقاذ، كل واحدة من خمسة وثلاثين رجلًا: الأولى بقيادة الملازم اللبناني حنا الحلو، ومعظم أفرادها من لبنان، والثانية كانت من المغاوير السوريين، والثالثة مجموعة من المناضلين من سوريا وشرق الأردن. وبعد احتدام المعارك، استطاع المناضلون الفلسطينيون حماية الحي الشرقي من القدس بما فيها المدينة القديمة بفضل دعم المقاومة الشعبية العربية.”

هذه المواجهة، والدروس المستخلصة منها، كتب عنها مؤسس البعث عندما كان في جنين في ذلك الحين، مؤكدًا أن مصدر الكارثة على القضية الفلسطينية هي الأنظمة العربية التابعة للاستعمار الغربي، وبأن أفضل ما يمكن أن تفعله هذه الأنظمة هو أن تكف عن كل سياسة، وتضع قضية القدس بين أيدي المقاتلين. وفي شهر تموز من سنة 1949، أصبح قائد جيش الإنقاذ في مدينة القدس أول فلسطيني ينتمي إلى حزب البعث العربي، وهو الأستاذ بهجت أبو غربية. ويشير الأستاذ محمد أبو ميزر إلى أنه هو أيضًا انتمى إلى البعث بعد قراءة دستور الحزب وأحاديث الأستاذ عفلق ليأخذ الرقم سبعة عشر في التسلسل الحزبي. مثلما أدت مشاركة البعث، بقيادته وأعضائه، في معركة فلسطين وفهمهم العميق لطبيعة الصراع العربي الصهيوني باعتباره صراعًا قوميًا يعني الأمة ونهضتها من خلال اغتصاب فلسطين، إلى بداية التنظيم الحزبي في فلسطين، فقد كان لها الأثر نفسه على بداية التنظيم الحزبي في لبنان، وخاصة في الجنوب الذي كان في الجغرافيا والسياسة امتدادًا مباشرًا لفلسطين.

بعد عودة الأستاذ عفلق من فلسطين، اعتقل وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر ليبدأ تاريخًا من النضال ضد الديكتاتورية العسكرية في سوريا حتى إسقاطها عام 1954، وبداية عصر نضالي متميز للحزب في عروبته ومشروعه النهضوي التحرري بمضمونه الاجتماعي، توجّه الحزب بدوره الأساسي في تحقيق وحدة سوريا مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958.

في الخمسينات، بدأت أفكار الحزب وتنظيماته تنتشر بشكل واسع في الأقطار العربية، بعد الاندماج بين “البعث العربي”، والتيار السياسي المحيط بأكرم الحوراني بمرتكزاته الشعبية والفلاحية الذي كان يعمل تحت عنوان الاشتراكية. مع هذا الاندماج، تغير اسم الحزب ليصبح حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي بات يتمتع بانتشار جماهيري واسع بعد أن كان تيارًا يغلب عليه الطابع الفكري والتبشيري. نما التنظيم في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق، وكانت له بدايات مبشرة في مصر وأقطار أخرى، وأصبح مؤثرًا إلى حد كبير في الحياة السياسية في سوريا التي عرفت في الخمسينات حياة ديمقراطية حزبية وبرلمانية توجها الحزب، الذي كان ممثلًا بسبعة عشر نائبًا في البرلمان وبتأثير كبير في الجيش، بالعمل على تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. لكن فشل الوحدة وأحداث عهد الانفصال الممتدة بين العامين 1961 و1963 تركت أثرًا سلبيًا على الحزب الذي حُلّ تنظيمه في سوريا من أجل الوحدة، وتعرض الأستاذ عفلق ورفاقه للاضطهاد قبل أن يعود الحزب إلى الحكم في سوريا في آذار 1963. لكن التكتل العسكري الذي نشأ في هذه الفترة أبعد الحزب عن مبدئيته وقيمه العقائدية ليجعل همه الوحيد السلطة ومنافعها، وذلك منع الحزب من تقويم تجربته والاستفادة من الأخطاء التي وقع فيها، فبات السعي إلى السلطة فوق العقيدة والمبادئ والنظام الداخلي وأحكامه، وفوق القيادة القومية للحزب ورجالاته التاريخيين.

في شباط من العام 1966، أطاح هذا التكتل العسكري بالعقيدة والمبادئ والحزب وقيادته، فغادر الأستاذ عفلق سوريا إلى لبنان، ومنه إلى البرازيل، لتبدأ مرحلة جديدة في النضال عنوانها حماية الحزب من المؤامرات التي تستهدفه من الداخل والخارج. لم يطل الأمر قبل أن يعود الحزب التاريخي الأصيل إلى ساحة الفعل في السياسة العربية والدولية، بعد استلام السلطة في العراق في 17-30 تموز من العام 1968.

كان الأستاذ عفلق على صلة بالرفاق في العراق، ولكن مقره بقي في بيروت. وبعدما ظهر له جليًا أن السلطة في العراق تعبر في سياستها وخططها وبرامجها عن توجهات الحزب، غادر لبنان نهائيًا ليستقر في العراق حيث مركز الأمانة العامة، والقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. في ذلك يقول إن قرارات تاريخية ثلاثة أقنعته بأن عقيدة الحزب ومبادئه هي ما يوجه السلطة في العراق، هذه القرارات هي: تأميم النفط، وإعطاء الحكم الذاتي للأكراد، وعدم التردد والمشاركة السريعة والفعالة في حرب تشرين (حرب أكتوبر 1973).

مارس الأستاذ عفلق دوره الريادي في الأمانة العامة والقيادة القومية، ورافق النضال القومي والتحرري العربي من خلال الدعوة إلى العمل الجبهوي، وجعل العراق قاعدة وملجأ لكل المناضلين الأحرار وبشكل خاص تنظيمات الثورة الفلسطينية، وتوجيه تنظيمات الحزب في الأقطار إلى التلاقي مع القوى التحررية على اختلاف اتجاهاتها في مواجهة العدو الصهيوني، وكل أشكال التدخل الإقليمي والدولي التي تستهدف نهضة الأمة العربية وانبعاثها. وكانت محاضراته في مدرسة الإعداد الحزبي ومواقفه في المؤتمرات الحزبية، وخطابه السنوي، وحضوره في المناسبات، وزياراته الميدانية حتى وفاته في حزيران من العام 1989، دليلًا وهاديًا للعروبة في نقائها، وانخراطها في النضال الذي يجسد الإيمان الذي يزداد عمقًا بنهوض الأمة كلما ازدادت المؤامرات، وبدا الظلام الحالك مسيطرًا من كل الجهات.

ختم الأستاذ عفلق حياته بالدعوة التي تمحور حولها خطابه الأخير في ذكرى تأسيس الحزب عام 1989، المتعلقة بديمقراطية العروبة، والتي كانت بمثابة رؤية مستقبلية يتبناها، اليوم، كل من يناضل من أجل نهضة الأمة العربية وتحررها. إنه بالنسبة للبعثيين، من بين كل القيادات التي عرفها الحزب، حتى الذين شاركوا في التأسيس، يمثل قدوة فكرية ونضالية؛ لأنه علم البعثيين والوطنيين بشكل عام معنى القيم الوطنية والقومية والإنسانية التي تهتدي بالفكر المنفتح على العصر، والمتصالح مع التراث، في نضالها الدؤوب. ومنه تعلموا أيضًا أن البعث حزب يدير السلطة في القطر الذي يحكمه باتجاه الأهداف الكبرى للأمة، ولكنه ليس حزبًا للسلطة؛ لذلك كانت السلطة تدول أما الحزب فيبقى، فهو حزب عصي على الاجتثاث، رغم إرادة قوى التخلف المذهبية في الداخل، والتدخل الاستعماري الجديد المدجج بالإعلام والسلاح الذي تنتجه عولمة التكنولوجيا والاقتصاد المتوحشة، في الخارج.

ما كانت قيادة الأستاذ عفلق للبعث رمزية، فقد شغل، في القسم الأكبر من حياته السياسية، موقع الأمين العام للحزب على رأس القيادة القومية التي تشكل المظلة الشرعية لتنظيمات البعث في الوطن العربي، والضمانة للتوازن بين الوطني والقومي، والعاصم من الانحراف السلطوي البعيد عن مبادئ النهوض القومي المتأسس على الحضور بين الجماهير، والنضال المتواصل لتطوير وعيها السياسي وتكامل نضالها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة، في إطار دولة رعاية اجتماعية، تراعي الحقوق المدنية والعيش الكريم للمواطنين المتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات.

عند الحديث عن تاريخ البعث في لبنان أو أي قطر من أقطار الأمة العربية، لا بد، منعًا لأي التباس، من التمييز بين حركة البعث التي بدأت على شكل فكرة بشر بها عفلق ورفاقه، تحولت إلى حركة سياسية وتيار شعبي كبير، وكانت بدايته الرسمية في المؤتمر التأسيسي الذي انعقد في دمشق يومي السادس والسابع من نيسان عام 1947، وما انشق عنه، أو ارتد عليه، أو نشأ على جانبه ممن حمل الاسم شكلاً واختلف عنه في الفكر أو السياسة مضمونًا.

لقد كان للأستاذ عفلق ورفاقه الأوائل دور مهم في نشأة البعث في سوريا ثم الأردن ولبنان والعراق، لينتشر تنظيمه لاحقًا في معظم أقطار الوطن العربي، وفي استمرار البعث كتنظيم مرتبط بالشرعية الحزبية التي يمثل عفلق رمزها وحاديها. وإذا كانت المرحلة الأولى من تاريخ البعث التي تمتد من التأسيس إلى المؤتمر القومي السادس الذي انعقد في سوريا عام 1963 قد تميزت بحضور القيادة التاريخية للحزب، ودورها الأساسي في الحياة السياسية على المستويين الوطني والقومي، فقد اختلف الأمر بعد سقوط دولة الوحدة وبروز قيادة الرئيس جمال عبد الناصر على الساحة القومية من جهة، وحضور القيادات العسكرية الطاغي والمهيمن على قيادة البعث الذي أعاد تنظيمه الحزبي في سوريا بعد الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961، من جهة أخرى.

ورد في كلمة ألقاها الأستاذ عفلق في الجلسة الحادية عشرة من المؤتمر القومي السادس (1963) ما حرفيته: “كنت دومًا أقول إن الذي يهدد الحزب خطران أو نزعتان وهما: القطرية وشهوة السلطة. وأستطيع أن أقول إن النزعة القطرية في الحزب، أي تمرد القيادة القطرية على الإشراف القومي، أي إشراف القيادة القومية، هذه النزعة تتصل بالمرض الثاني أي النزوع إلى السلطة”. وفي المؤتمر القطري الاستثنائي الذي انعقد في سوريا في الثالث من شباط عام 1964، يتحدث عفلق بكثير من المرارة عن تكتل داخل الحزب، ويشير إلى أنه كان قد تكلم عنه في المؤتمر القومي، ويؤكد أن هذا التكتل “الذي نعرف أصوله منذ زمن الانفصال، وتتبعناه، كان يقوم على إبعاد أشخاص معينين عن الحزب… وبكلام صريح وواضح كان يقوم على إبعاد صلاح وميشيل عن الحزب، وقد أبعدنا فعلاً عن التنظيم”.

هذا النزوع الأعمى الذي يحركه شبق السلطة لبعض الطارئين على تنظيم البعث بعد الانفصال، الذين اعتمدوا أسلوب الحيل والمناورات والمخططات التي تُطبخ بين أربعة أو خمسة أشخاص في الظلام، كما يقول عفلق، أوصلت الحزب في سوريا إلى نتيجة مأساوية تتمثل في وجود قيادة قطرية لحزب البعث الحاكم، قسم منها انتسب للحزب بعد حركة آذار بزمن، ومعظم أفرادها من تكتل قامت حركة آذار ضد عقليته ومنطقه، فباتت سلطة القيادة القطرية وبالًا على الحزب. في مواجهة هذا الواقع، كان على القيادة القومية أن تبادر، دون تردد، إلى حل القيادة القطرية، فحصل الصدام وتغولّت السلطة على الحزب وقيادته التاريخية عام 1966. عند ذلك، قررت القيادة القومية وعلى رأسها الأستاذ عفلق اعتبار هذه السلطة خارجة عن الشرعية الحزبية، وهي لا تمثل بأي شكل من الأشكال سلطة الحزب الذي ترفض قيادته القومية بشكل حازم أن يتحول إلى حزب السلطة.

يتناول الأستاذ عفلق هذا السياق التاريخي الذي آل إلى سقوط الحزب أمام امتحان السلطة في سوريا، فيقول: “كانت بنية الحزب في سوريا، قد عانت كثيرًا من الضعف والتمزق، نتيجة حل التنظيم أيام الوحدة، وسوء تطبيق الوحدة في القطر السوري؛ لذلك لم يقوَ الحزب بعد 8 آذار على منع التسلط الذي مارسته التكتلات العسكرية والطائفية…. فكانت السنوات الثلاث حتى شباط 1966، سلسلة من الصراعات بين الحزب والمتسلطين عليه، الذين انتحلوا اسمه ليغيروا معالمه، ويدجنوه ليصبح أداة مسخرة للحكم.”

لقد قاوم الحزب التاريخي ذلك الخطر، وتلك الانحرافات بشدة وحزم، فكان انقلاب 23 شباط 1966 فرزًا موضوعيًا، لأن المتسلطين لم يستطيعوا كسب أحد من المناضلين، بل ملأوا بهم السجون التي شهدت البطولات والتضحيات، المعبرة عن روح الصمود والمقاومة العنيفة للانحراف والتسلط، مما جعل الحكم في سوريا يعيش من ذلك الحين في الفراغ المبدئي العقائدي، وعقدة فقدان الشرعية، في حين انصرف الحزب لإعادة بناء نفسه، محتفظًا بعقيدته كاملة وناصعة، وبتاريخ نضاله المشرق، ومؤمنًا بأن المستقبل سيكون لهذه العقيدة ولخطها التاريخي.

ظل عفلق حتى خطابه الأخير عام 1989 الذي ألقاه عبر إذاعة بغداد حريصًا على خيارات البعث الفكرية التي وُضعت، كما يقول: “بالمقاييس التاريخية على ضوء قيم التراث الخالد، ومفاهيم الحضارة العالمية المعاصرة”. والبعث برأيه ينبغي أن يستلهم على الدوام البداية البسيطة والقوية التي انطلق منها، ويستخلص دروس المسيرة الطويلة لأنه ليس فكرًا فحسب، وإنما هو فكر ونضال ومعاناة، أي هو تجربة صادقة متطورة مندمجة في المصير العربي. وكانت وصيته الأخيرة: دعوة الأنظمة إلى “الانفتاح على الجماهير”، و”الشجاعة في تطبيق الديمقراطية”، لأن المشكلات التي قد تنشأ عن عدم اكتمال الشروط للممارسة الديمقراطية، أو الخلل في ممارستها، يقابلها أضعاف أضعافها من الخير والعطاء والخلق والإبداع واكتساب الفضائل التي لا تتفتح ولا تأخذ أمدائها إلا في جو الحرية.

إنه بالنسبة للبعثيين، من بين كل القيادات التي عرفها الحزب، حتى الذين شاركوا في التأسيس، يمثل قدوة فكرية ونضالية؛ لأنه علم البعثيين والوطنيين بشكل عام معنى القيم الوطنية والقومية والإنسانية التي تهتدي بالفكر المنفتح على العصر، والمتصالح مع التراث، في نضالها الدؤوب. ومنه تعلموا أيضًا أن البعث حزب يدير السلطة في القطر الذي يحكمه باتجاه الأهداف الكبرى للأمة، ولكنه ليس حزبًا للسلطة؛ لذلك كانت السلطة تدول أما الحزب فيبقى، فهو حزب عصي على الاجتثاث، رغم إرادة قوى التخلف المذهبية في الداخل، والتدخل الاستعماري الجديد المدجج بالإعلام والسلاح الذي تنتجه عولمة التكنولوجيا والاقتصاد المتوحشة، في الخارج.

ما كانت قيادة الأستاذ عفلق للبعث رمزية، فقد شغل، في القسم الأكبر من حياته السياسية، موقع الأمين العام للحزب على رأس القيادة القومية التي تشكل المظلة الشرعية لتنظيمات البعث في الوطن العربي، والضمانة للتوازن بين الوطني والقومي، والعاصم من الانحراف السلطوي البعيد عن مبادئ النهوض القومي المتأسس على الحضور بين الجماهير، والنضال المتواصل لتطوير وعيها السياسي وتكامل نضالها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة، في إطار دولة رعاية اجتماعية، تراعي الحقوق المدنية والعيش الكريم للمواطنين المتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات.

عند الحديث عن تاريخ البعث في لبنان أو أي قطر من أقطار الأمة العربية، لا بد، منعًا لأي التباس، من التمييز بين حركة البعث التي بدأت على شكل فكرة بشر بها عفلق ورفاقه، تحولت إلى حركة سياسية وتيار شعبي كبير، وكانت بدايته الرسمية في المؤتمر التأسيسي الذي انعقد في دمشق يومي السادس والسابع من نيسان عام 1947، وما انشق عنه، أو ارتد عليه، أو نشأ على جانبه ممن حمل الاسم شكلاً واختلف عنه في الفكر أو السياسة مضمونًا.

لقد كان للأستاذ عفلق ورفاقه الأوائل دور مهم في نشأة البعث في سوريا ثم الأردن ولبنان والعراق، لينتشر تنظيمه لاحقًا في معظم أقطار الوطن العربي، وفي استمرار البعث كتنظيم مرتبط بالشرعية الحزبية التي يمثل عفلق رمزها وحاديها؛ وإذا كانت المرحلة الأولى من تاريخ البعث التي تمتد من التأسيس إلى المؤتمر القومي السادس الذي انعقد في سوريا عام 1963 قد تميزت بحضور القيادة التاريخية للحزب، ودورها الأساسي في الحياة السياسية على المستويين الوطني والقومي، فقد اختلف الأمر بعد سقوط دولة الوحدة وبروز قيادة الرئيس جمال عبد الناصر على الساحة القومية من جهة، وحضور القيادات العسكرية الطاغي والمهيمن على قيادة البعث الذي أعاد تنظيمه الحزبي في سوريا بعد الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961، من جهة أخرى.

ورد في كلمة ألقاها الأستاذ عفلق في الجلسة الحادية عشرة من المؤتمر القومي السادس (1963) ما حرفيته: “كنت دومًا أقول إن الذي يهدد الحزب خطران أو نزعتان وهما: القطرية وشهوة السلطة. وأستطيع أن أقول إن النزعة القطرية في الحزب، أي تمرد القيادة القطرية على الإشراف القومي، أي إشراف القيادة القومية، هذه النزعة تتصل بالمرض الثاني أي النزوع إلى السلطة”. وفي المؤتمر القطري الاستثنائي الذي انعقد في سوريا في الثالث من شباط عام 1964، يتحدث عفلق بكثير من المرارة عن تكتل داخل الحزب، ويشير إلى أنه كان قد تكلم عنه في المؤتمر القومي، ويؤكد أن هذا التكتل “الذي نعرف أصوله منذ زمن الانفصال، وتتبعناه، كان يقوم على إبعاد أشخاص معينين عن الحزب… وبكلام صريح وواضح كان يقوم على إبعاد صلاح وميشيل عن الحزب، وقد أبعدنا فعلاً عن التنظيم”.

هذا النزوع الأعمى الذي يحركه شبق السلطة لبعض الطارئين على تنظيم البعث بعد الانفصال، الذين اعتمدوا أسلوب الحيل والمناورات والمخططات التي تُطبخ بين أربعة أو خمسة أشخاص في الظلام، كما يقول عفلق، أوصلت الحزب في سوريا إلى نتيجة مأساوية تتمثل في وجود قيادة قطرية لحزب البعث الحاكم، قسم منها انتسب للحزب بعد حركة آذار بزمن، ومعظم أفرادها من تكتل قامت حركة آذار ضد عقليته ومنطقه، فباتت سلطة القيادة القطرية وبالًا على الحزب. في مواجهة هذا الواقع، كان على القيادة القومية أن تبادر، دون تردد، إلى حل القيادة القطرية، فحصل الصدام وتغولّت السلطة على الحزب وقيادته التاريخية عام 1966. عند ذلك، قررت القيادة القومية وعلى رأسها الأستاذ عفلق اعتبار هذه السلطة خارجة عن الشرعية الحزبية، وهي لا تمثل بأي شكل من الأشكال سلطة الحزب الذي ترفض قيادته القومية بشكل حازم أن يتحول إلى حزب السلطة.

يتناول الأستاذ عفلق هذا السياق التاريخي الذي آل إلى سقوط الحزب أمام امتحان السلطة في سوريا، فيقول: “كانت بنية الحزب في سوريا، قد عانت كثيرًا من الضعف والتمزق، نتيجة حل التنظيم أيام الوحدة، وسوء تطبيق الوحدة في القطر السوري؛ لذلك لم يقوَ الحزب بعد 8 آذار على منع التسلط الذي مارسته التكتلات العسكرية والطائفية…. فكانت السنوات الثلاث حتى شباط 1966، سلسلة من الصراعات بين الحزب والمتسلطين عليه، الذين انتحلوا اسمه ليغيروا معالمه، ويدجنوه ليصبح أداة مسخرة للحكم.”

لقد قاوم الحزب التاريخي ذلك الخطر، وتلك الانحرافات بشدة وحزم، فكان انقلاب 23 شباط 1966 فرزًا موضوعيًا، لأن المتسلطين لم يستطيعوا كسب أحد من المناضلين، بل ملأوا بهم السجون التي شهدت البطولات والتضحيات، المعبرة عن روح الصمود والمقاومة العنيفة للانحراف والتسلط، مما جعل الحكم في سوريا يعيش من ذلك الحين في الفراغ المبدئي العقائدي، وعقدة فقدان الشرعية، في حين انصرف الحزب لإعادة بناء نفسه، محتفظًا بعقيدته كاملة وناصعة، وبتاريخ نضاله المشرق، ومؤمنًا بأن المستقبل سيكون لهذه العقيدة ولخطها التاريخي.

ظل عفلق حتى خطابه الأخير عام 1989 الذي ألقاه عبر إذاعة بغداد حريصًا على خيارات البعث الفكرية التي وُضعت، كما يقول: “بالمقاييس التاريخية على ضوء قيم التراث الخالد، ومفاهيم الحضارة العالمية المعاصرة”. والبعث برأيه ينبغي أن يستلهم على الدوام البداية البسيطة والقوية التي انطلق منها، ويستخلص دروس المسيرة الطويلة لأنه ليس فكرًا فحسب، وإنما هو فكر ونضال ومعاناة، أي هو تجربة صادقة متطورة مندمجة في المصير العربي. وكانت وصيته الأخيرة: دعوة الأنظمة إلى “الانفتاح على الجماهير”، و”الشجاعة في تطبيق الديمقراطية”، لأن المشكلات التي قد تنشأ عن عدم اكتمال الشروط للممارسة الديمقراطية، أو الخلل في ممارستها، يقابلها أضعاف أضعافها من الخير والعطاء والخلق والإبداع واكتساب الفضائل التي لا تتفتح ولا تأخذ أمدائها إلا في جو الحرية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.