
بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
في زمن تتسارع فيه الأحداث بما يشبه القفزات الجيوسياسية، تأتي لحظة الهدوء لا بوصفها نهاية، بل كعتبة تفتح على عالم جديد من المفاجآت والاستقطابات والتحولات. تخيّل أن تتوقف الحرب فجأة. لا بانتصار طرف أو استسلام طرف، بل بقرار فوقي صادر من القوى الكبرى، بضغط أمريكي–صيني، يهدف لا إلى إنهاء المأساة، بل إلى إعادة تشكيل المسرح بما يناسب ترتيبات ما بعد الحرب. هنا، لا يكون (وقف النار) مجرد حدث عسكري، بل تحول زلزالي تتشظى منه الجغرافيا السياسية برمتها.
في مشهد يشبه المفارقة التاريخية، يتحول (وقف النار) من هدنة عسكرية إلى زلزال استراتيجي يعيد رسم خريطة المنطقة. فبينما تُعلن وسائل الإعلام نهاية القتال، تبدأ معركة أكثر شراسة على طاولة المفاوضات وفي الشوارع وعلى منصات السوشيال ميديا. هذا ليس سلامًا، بل هو حرب باردة جديدة بأدوات مختلفة.
في هذه اللحظة التي تسبق الانتخابات الأمريكية، وتتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية خانقة، يكون وقف النار حلًا براغماتيًا لأمريكا، لا أخلاقيًا ولا نهائيًا. وهو بالنسبة للصين، فرصة لتأكيد دورها كوسيط حضاري في عالم ينكفئ عن الرصاص ويتوق إلى الاستثمارات. لكن السؤال الأكبر يبقى: ماذا سيحدث لفلسطين والعرب في صبيحة ما بعد النار؟
في الضفة وغزة، قد يكون الصمت أكثر ضجيجًا من المعارك. هناك جيل جديد يتشكل على أنقاض كل السرديات السابقة. جيل يرفض أن يكون مجرد (ورقة) في الصراع الإقليمي، يرفع شعارًا بسيطًا وعميقًا في آن: (لا إيران ولا إسرائيل… ثورتنا فلسطينية خالصة). وفقًا لآخر استطلاعات الرأي (استطلاع مركز القدس 2024)، فإن نحو 78% من الفلسطينيين تحت سن 35 يرفضون أي تبعية لمحاور الخارج، ويريدون مشروعًا فلسطينيًا صافيًا، لا نسخة مشوهة من معارك الآخرين.
لكن (إسرائيل)، بدهائها الاستراتيجي، ستغتنم لحظة الهدوء للانقضاض على ما تبقى من فكرة (الدولة الفلسطينية). مشروع الضم المتدرج سيُستأنف بهدوء، وغزة قد تُحوّل إلى كيان منفصل، تحت إدارة عربية (مشتركة) تُقدم بوصفها حلًا إنسانيًا، لكنها في حقيقتها محاولة لإعادة صياغة الجغرافيا بما يخدم فكرة (السلام الاقتصادي) لا السياسي. وكذلك اقتراح وتطبيق مشروع (الضم الرقمي) عبر تطبيقات إلكترونية لتسوية الأراضي. إضافة إلى تحويل غزة إلى (منطقة اقتصادية خاصة) بذريعة الإعمار.
في الإقليم، ستعيد الدول تموضعها. إيران ستقدم نفسها كمنتصر رمزي، لكنها ستفقد تدريجيًا ورقة (المقاومة)، لأنها لن تجد حربًا تبرر وجودها. ستلجأ إلى تكثيف حضورها في اليمن، والعراق، ولبنان، وربما تحرك وكلاءها في الخليج. في المقابل، ستجد (إسرائيل) فرصة ذهبية لاستئناف التطبيع، خصوصًا مع السعودية، مع التنازل عن بعض الملفات الحساسة كجزء من صفقة كبرى. غير أن هذا التطبيع لن يمر بهدوء؛ إذ سيُواجه من الداخل (الإسرائيلي) بغضب اليمين المتطرف، ومن الشعب العربي بموجة تساؤلات عن الثمن الحقيقي لهذا (السلام).
جدول رقم (1) الزلزال الإقليمي
تاريخيًا، مثّل الاتحاد الأوروبي شريكًا اقتصاديًا وسياسيًا للاحتلال، عبر صفقات (السلام مقابل التنمية)، ودعم السلطة الفلسطينية في مسار ما بعد أوسلو ضمن سياسات الضبط الناعم للمقاومة. لكنه في الآونة الأخيرة، بدا منقسمًا ومترددًا، حيث يراوح بين خطاب حقوق الإنسان وبين التمويل غير المباشر لجرائم الحرب، كما في مواقف بعض الدول التي تعارض وقف تصدير السلاح لإسرائيل رغم الجرائم الموثقة.
ورغم أن بعض دول الاتحاد – كإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا – أبدت مؤخرًا مواقف أكثر شجاعة بالاعتراف بفلسطين، فإن الموقف الأوروبي يظل رهينًا لمنطق (الحياد النشط)، أي التنديد اللفظي دون تحول في السياسات. هذا التناقض يعكس عمق الأزمة الأخلاقية في الخطاب الليبرالي الأوروبي، ويكشف هشاشة فكرة (القيم) حين تتقاطع مع المصالح الجيوسياسية.
أما تركيا، فهي تسير على حبل مشدود: بين احتضانها لخطاب المظلومية الفلسطينية، خاصة في خطاب الرئيس أردوغان، وبين استمرار علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع الكيان الصهيوني. بل إن الأرقام الأخيرة تؤكد أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين تضاعف منذ العدوان، مما يجعل من خطابها (الممانع) نوعًا من إعادة التموضع البراغماتي لا الانقلاب الاستراتيجي. ومع ذلك، تظل تركيا لاعبًا مهمًا، خاصة في الضغط على بعض ملفات الحصار الإنساني، ويمكن، إذا وُوجهت بمواقف عربية أكثر صلابة، أن تنزاح نحو تنسيق أكثر فاعلية لصالح القضية.
لكن كل إعادة تشكيل، سواء قادتها أمريكا أو طهران أو تل أبيب، تظل محكومة بمنظور استراتيجي خارجي، يعيد هندسة المنطقة وفقًا لمصالح غير عربية. وهنا يطرح السؤال الجوهري: أين المشروع العربي القادر على أن يعيد ترتيب أوراقه على قاعدة الاستقلال لا الاصطفاف؟ مشروع لا يُختزل في رد الفعل، بل يبني فعله على رؤية نهضوية متكاملة، تُعيد للعروبة مضمونها الوحدوي والتحرري، لا كشعار شعبي، بل كمؤسسة استراتيجية تُبنى من جديد، بقيادة الشعوب الواعية والنخب المستقلة.
أما حماس، فستجد نفسها في مأزق الشرعية. لقد قاتلت باسم القضية، لكنها ستكون مطالبة بتحول جذري، من فصيل مقاومة إلى (حكومة ظل)، وربما إلى كيان إداري يفتقد الزخم الشعبي الذي كان يمنحه له الشارع العربي.
الدول العربية، من جهتها، ستقف أمام فرصة تاريخية لإعادة التشكيل، لكنها أيضًا مهددة بالانهيار الداخلي إذا لم تُحسن قراءة الموقف. ثمة من سيغريه إطلاق مشاريع إعمار وهمية في غزة، ومن سيتوهم أن الهدوء يعني العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر. لكن الزلزال وقع بالفعل، ولا عودة إلى الوراء.
عالميًا، ستكون الولايات المتحدة أمام انقسام داخلي غير مسبوق: فريق المحافظين الجدد سيضغط لبقاء (إسرائيل) كقوة مطلقة، فيما يراهن فريق (ترامب) على شرق أوسط هادئ لتمرير أجندته الاقتصادية. الصين وروسيا، في المقابل، ستتحركان لا من باب الأيديولوجيا، بل عبر رؤوس الأموال، وستقدمان مشروع (طريق حرير فلسطيني)، يربط بين الاستثمار والنفوذ في المنطقة. وكذلك روسيا في لعبة الخطوط الحمراء الجديدة في لبنان وسوريا. ومع تراجع المخاطر الجيوسياسية، قد تنهار أسعار النفط، أو تتقلب، ما يؤدي إلى صعود ما يمكن تسميته (اقتصادات الحرب الباردة الجديدة)، حيث تصبح التكنولوجيا والتحالفات الأمنية هي سلعة القرن.
لكن السيناريو الأكثر سوداوية هو ذلك الذي لا تجرؤ الدبلوماسية على الاعتراف به. إذا فُرض الهدوء دون عدالة، ستُفتح جبهة جديدة: الصراع الطائفي. ستتحول فلسطين إلى ساحة حرب بين محور شيعي إيراني، وتيارات سلفية ترى في المقاومة (انحرافًا عقديًا). وفي غمرة هذا الاصطفاف، قد يشهد الأردن انهيارًا تدريجيًا إذا فَقَد ورقة التوازن الفلسطيني، بينما يواجه لبنان خطر الانقسام إلى كانتونات طائفية تغذيها الميليشيات والمصالح الإقليمية. أما الدول المنضوية ضمن (محور المقاومة)، فستواجه تمردًا شعبيًا داخليًا، حين يتوقف التمويل الإيراني، ويجد الجائعون أن (القدس) لم تعد تسد رمقهم.
وسط هذا الضباب الكثيف، يظل هناك مخرج واحد: أن يتحول العرب من ملعب إلى لاعب. تشكيل تحالف عربي، بقيادة الجماهير العربية، هو الفرصة الذهبية. ليس فقط لإعادة بناء غزة، بل لإعادة بناء الفكرة العربية ذاتها، على أساس المبادئ، لا العواطف. مشروع مارشال عربي، تُكتب بنوده بأيدٍ عربية، لا بإملاءات مانحين، يمكنه أن يكون بداية زمن جديد.
إن هذا التحالف، لكي يكون أكثر من مجرد رد فعل على الفراغ، يحتاج إلى محتوى استراتيجي: إنه المشروع القومي النهضوي، الذي يتجاوز التنسيق السياسي إلى إعادة بناء الإنسان العربي، على أساس المساواة، والحرية، والوحدة، والتنمية المستقلة.
في زمن الانكسارات المتناسلة، حيث تتكاثف الهويات الجزئية، وتُستنزف الإرادات تحت وطأة الاستقطابات الطائفية والعرقية والإقليمية، ينهض المشروع القومي النهضوي العربي لا بوصفه حنينًا إلى ماضٍ تبخر، ولا شعارات تقاوم الموت بالبلاغة، بل باعتباره ضرورة وجودية لإعادة تعريف الذات العربية في عالم يتجه نحو الكتل الكبرى والأقطاب المتعددة. إن المطلوب من هذا المشروع اليوم ليس استعادة الخارطة، بل استعادة البوصلة؛ ليس الدفاع عن التاريخ، بل إنتاج مستقبل ينتمي إليه الإنسان العربي لا بوصفه متلقيًا للهزيمة، بل فاعلًا في صياغة النهضة. ليس التمزق العربي مجرد تشتت جغرافي أو خصومات سياسية بين عواصم شقيقة، بل هو تعبير وجودي عن فقدان البوصلة الحضارية، وعن غياب المشروع الجامع الذي يتجاوز (الجغرافيا القطرية) نحو (الرسالة التاريخية). فالخلافات العربية لم تعد صراعات على وجهات نظر، بل صراعات على تعريف الذات. من هو العربي؟ وما هو الوطن؟ وما الذي يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟ في ظل واقع تتنازع فيه الهويات الطائفية والعرقية والولاءات الإقليمية والدولية، تحولت الدولة الوطنية من رافعة للسيادة إلى ساحة لصراعات الآخرين. ولم تعد الجامعة العربية جامعة، بل متحفًا للبيانات الختامية. في هذا المناخ، لا يمكن للتمزق العربي أن يُقرأ فقط بلغة التحليل السياسي، بل بلغة الفقد الوجودي، إذ أصبح العربي غريبًا في وطنه، مشتتًا بين ذاكرة لم تُبْنَ ومستقبل لم يُصنع. وهنا يُطرح السؤال الفلسفي الكبير: هل نحن أمة لم تكتمل؟ أم أمة أُجهض مشروعها قبل أن يولد؟
يتأسس المشروع القومي النهضوي على تكامل أبعاد أربعة: السيادة السياسية التي لا تُرهن لإرادة الخارج، العدالة الاجتماعية التي تكفل الكرامة لكل فرد، الوحدة الثقافية التي تصون الهوية دون أن تلغي التنوع، والتنمية المستقلة التي تخرج من نفق التبعية الاقتصادية. أما الدور المنوط به اليوم، فهو بناء فضاء معرفي جديد، يحرر الوعي من قبضة الاصطفافات الزائفة، ويستأنف التفكير في الدولة، والسلطة، والمجتمع، من موقع الأمة لا من موقع العشيرة أو الطائفة أو الإقليم. في زمن الاصطناع، يصبح المشروع القومي هو الأصيل الوحيد الممكن. التحولات لا تنبع من الفوق فقط، بل من الحراك تحت السطحي في الوعي الجماهيري. وإذا كانت القومية في زمن ما ارتبطت بالمركز، فإنها اليوم تبدأ من الأطراف، من المخيم، من المهمّش، من المُدان بتهمة الحلم، لتعيد للإنسان العربي دوره بوصفه حاملًا لمشروع تحرري، لا مجرد رقم في معادلة جيوسياسية مفروضة عليه من الخارج. إنها لحظة تحول، إن التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في اجترار مراثي الأمة، بل في بلورة برنامج فكري-سياسي عابر للطوائف والحدود القطرية، يستعيد الإنسان العربي بوصفه فاعلًا في التاريخ، لا هامشًا فيه.
إن الحرب، كما قيل، تتوقف حين يتفق الأقوياء. لكن المعركة الحقيقية تبدأ بعد الهدنة: معركة الوعي، معركة إعادة التأسيس، معركة ترميم الإنسان العربي من الداخل. الخيار واضح: إما أن نكون صدى لما يُقال في غرف القرار الدولي، أو أن نصبح نحن من يصوغ الخطاب، لا من يردده. في زمن ما بعد العاصفة، لن يكون الحياد خيارًا، بل التواطؤ المقنع.
الرد العربي لا يجب أن يبقى محصورًا في دائرة الاحتجاجات، ولا في سجالات الإعلام والشاشات. ما نحتاجه هو مشروع قومي ملموس، متعدد الأبعاد، يأخذ بعين الاعتبار أن معركة فلسطين هي ليست فقط عسكرية، بل رمزية، اقتصادية، إعلامية، وسيادية. نقترح في هذا السياق الخطوات التالية:
- إنشاء (صندوق عربي موحد لإعمار غزة)، لا يخضع لوصاية أجنبية أو شروط المانحين، بل يكون بإشراف مؤسسة عربية مستقلة، ويعتمد في تمويله على مساهمات الحكومات، القطاع الخاص، والشتات الفلسطيني والعربي.
- إطلاق (منصة رقمية عربية) لتنسيق المواقف والجهود، تجمع النخب الثقافية والإعلامية والسياسية، وتؤسس لخطاب عربي موحد تجاه العدوان، وتكسر احتكار السردية الصهيونية على الفضاء الرقمي.
- بناء تحالف برلماني عربي–أوروبي، يضم نوابًا عربًا وأوروبيين مناصرين للقضية، من أجل الضغط لتفعيل الأدوات القانونية لمحاسبة الاحتلال على جرائمه، سواء أمام المحاكم الأوروبية أو المحكمة الجنائية الدولية.
- صياغة ميثاق إعلامي عربي جامع، يمنع تطبيع الخطاب أو تقديم الاحتلال كمجرد (طرف في نزاع)، ويُلزم الفضائيات والصحف والمواقع بحد أدنى من الالتزام الأخلاقي تجاه القضية، خاصة في التغطية.
- إعادة تعريف العلاقة مع المقاومة، ليس كمجرد بند في البيان الختامي، بل كعنصر من عناصر السيادة الوطنية. على الدول العربية أن تتعامل مع فصائل المقاومة بوصفها ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطيني، وليست (عناصر خارجة عن الشرعية)، كما تروّج بعض الأنظمة الخاضعة للوصاية الغربية.
وهكذا، فإن المقال لا يسعى إلى تقديم تحليل خبري لما جرى، بل يطرح رؤية شاملة: ما الذي يُمكن فعله؟ كيف نستثمر اللحظة؟ وما الذي يجب أن نخشاه أكثر من الصواريخ؟ إنه ليس الزمن الذي ننتظره، بل الزمن الذي يجب أن نصنع. الهدنة ليست نهاية الحرب، بل هي انتقال من معركة الدبابات إلى معركة العقول. ومن خسر اليوم قد يربح غدًا، بشرط أن يفهم قواعد اللعبة الجديدة.
ويكفي، في لحظة كهذه من تقاطع النيران والخرائط، أن نستلهم البصيرة الاستراتيجية التي تكرست في تأملات الناطق الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي، الباشمهندس عادل خلف الله، إذ يرى أن ما يجري ليس فقط صراعًا جيوسياسيًا عابرًا بين طهران وتل أبيب، ولا مجرد اختبار لإرادة واشنطن، بل هو ارتجاج عميق في المعنى الكامن للدولة، وللسيادة، ولما يسمى اصطلاحًا بالتحالفات. إنها الحرب التي تمتحن كل الأقنعة، وتعيد تعريف المحاور، وتسائل الوجود العربي من جديد: من نحن في زمن التحالفات المائعة؟ وما جدوى العواصم إذا لم تكن منارات للبصيرة لا أبراجًا للمراقبة؟ وفي رؤيته المتقدمة لما بعد الحرب، لا يقرأ الأستاذ خلف الله الأحداث بوصفها نهايات، بل بوصفها بدايات قسرية لعصر عربي لا يمكن له أن يولد إن لم يُعد التفكير في السياسة بوصفها ثقافة مقاومة، وفي الفن بوصفه تعبيرًا عن الروح، وفي الهوية بوصفها مشروعًا تحرريًا لا ملصقًا دعائيًا.
لن يكون المستقبل العربي بانتظار من يكتب له التاريخ في العواصم الغربية أو الإقليمية. اللحظة الزلزالية التي نعيشها اليوم، لا تحتمل الخطاب الأخلاقي المجرد، ولا التسويات الطائفية المؤقتة. إن ما نحتاجه هو صياغة مشروع قومي عقلاني، يربط بين التحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي، بين استعادة القرار السياسي وبناء الذات الثقافية. ومَن لا يملك مشروعًا، سيكون وقودًا في مشروع الآخرين.
إن ما يواجهنا ليس فقط احتلالًا ماديًا لفلسطين، بل استعمارًا رمزيًا للوعي العربي. ولعل أهم ما تكشفه الحرب، في هذا السياق، هو مدى الحاجة إلى استعادة المعنى: أن تكون فلسطين ليست فقط خارطة، بل رمزًا للحرية العربية، وأن يُفهم العدو لا فقط كاحتلال عسكري، بل كنظام فصل عنصري استيطاني يهدد جوهر الوجود العربي نفسه.
ليس المطلوب من الأقطار العربية والقوى الحية العربية، السياسية والاجتماعية، أن (تناصر) فلسطين، بل أن تدافع عن ذاتها. لأن من يسكت على احتلال غزة اليوم، سيسكت عن تقسيم بلاده غدًا. المعركة الآن هي معركة على الحقيقة، على الكرامة، وعلى المستقبل. إما أن نؤسس لمشروع نهضوي سيادي يعيد للأمة زمام المبادرة، أو نستمر في تكرار هزائمنا تحت رايات الإنكار والانتظار.
إن اللحظة التي تتوقف فيها نيران المواجهة الإسرائيلية–الإيرانية – سواء كليًا أو مرحليًا – ليست لحظة سكون، بل بداية لموجة زلزالية أعمق تمس جوهر القضية الفلسطينية وسؤال السيادة في العالم العربي. ذلك أن ما يجري ليس مجرد تسوية مؤقتة بين قوتين إقليميتين، بل هو مشهد يُعاد ترتيبه عالميًا، حيث تُعاد صياغة الاصطفافات، وتُعطى الأولوية لتحالفات الطاقة والممرات البحرية على حساب العدالة والحقوق التاريخية. وفي هذا المنعطف الحرج، تبرز ضرورة ملحة لتوظيف الحراك الجماهيري العربي، والعالمي الذي تجاوز الطابع العاطفي إلى أفق من الوعي السياسي المتجذر – وتحويله إلى مضمون استراتيجي لبرنامج نضال دائم. ليس عبر الاحتجاج الموسمي فحسب، بل عبر تأطير القوى الشعبية، وتثبيت رموزها، وتنظيم وسائل تعبيرها من النقابات إلى الجامعات، ومن الإعلام إلى المجالس النيابية في الدول المتاحة. فالتاريخ لا يتغير بالومضات، بل بالاستمرارية المنظمة.
هنا، يصبح من الضروري استثمار هذا الزخم الجماهيري ليس فقط لفضح التواطؤ، بل لتجريم الاحتلال قانونيًا، وأخلاقيًا، وسياسيًا، في كافة المحافل الممكنة، ولإعادة تحديد بوصلة الصراع نحو مركزها الأخلاقي والوطني: فلسطين كاملة، شعبًا وأرضًا وهوية. فالعدوان لم يتوقف بعد، بل يُعاد تأطيره بأدوات جديدة، تحت عناوين خادعة كـ (وقف إطلاق النار)، و(تهدئة إقليمية)، بينما يظل الاستعمار قائمًا، ويُمنح مزيدًا من الوقت لإعادة تنظيم نفسه. المطلوب إذن هو الانتقال من رد الفعل إلى الفعل المبادر، من الدفاع إلى الهجوم المعنوي والاستراتيجي، من الارتجال إلى البرنامج، من العفوية إلى التجذير. تلك هي مهمة الحركات الواعية، إن أرادت ألا تُفاجأ بما بعد العاصفة، حين تُفتح الأبواب الخلفية لتسويات تفكك ما تبقى من الحق الفلسطيني وتشرعن الهيمنة تحت لافتة (السلام العادل).
Leave a Reply