
بقلم: محمد ضياء الدين
في الثالث والعشرين من يونيو، تحل علينا الذكرى السادسة والثلاثون لرحيل المفكر القومي الكبير والقائد المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي، أحمد ميشيل عفلق (1910–1989م). هذا القائد كرّس حياته من أجل نهضة الأمة العربية، مؤمنًا بوحدتها ورسالتها الخالدة. وُلِد عفلق في دمشق، المدينة التي حملت إرث العروبة والإسلام، وتشرب منذ نشأته بالوعي القومي. فكان من أوائل من عبّروا عن حاجة العرب إلى فكر يُعيد إليهم ثقتهم بتاريخهم وقدرتهم على النهوض من جديد، لا بوسائل مادية فحسب، بل عبر انبعاث روحي يوقظ مكامن القوة الكامنة في الذات العربية.
درس عفلق الفلسفة في جامعة السوربون بباريس، لكنه عاد إلى المشرق وهو أكثر إيمانًا بأن نهضة العرب لا يمكن أن تتحقق إلا بإحياء الروح القومية الأصيلة. فصاغ مع رفاقه في الأربعينيات مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، مؤسسًا بذلك تيارًا فكريًا وسياسيًا حمل شعار الأمة العربية الخالدة ذات الرسالة الخالدة. كان يرى في الوحدة والحرية والاشتراكية الركائز التي تنهض عليها الأمة، إذ كتب قائلًا: “إن البعث ليس حزبًا فحسب، بل هو ثورة، وهو روح الأمة وقد بُعث فيها من جديد”. وقد تمحور فكره حول تحرير الإنسان العربي من كل أشكال الاستلاب، سواء أكان استعمارًا أجنبيًا أم استبدادًا داخليًا، من منطلق أن الحرية هي جوهر القومية وليست ملحقًا بها. هنا اتخذ البعث صورته التاريخية كحركة أجيال عربية تُدرك مهمتها التاريخية وتحمل قدر الأمة في هذا العصر.
تميّز فكره بالربط العميق بين العروبة والإسلام، معتبرًا أن الإسلام كان التعبير الأسمى عن الروح العربية في التاريخ، قائلًا: “كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدًا”. اتجه فكره نحو بناء نهج قومي إنساني متجدد، لا يعادي الدين ولا ينغلق في قومية ضيقة، بل يرى في العروبة إطارًا حضاريًا وثقافيًا يحتضن كل من يعيش في أرض العرب بمختلف مكوناتهم الاجتماعية. ولعلّ من أبرز إضافاته الفكرية تأكيده المستمر على أن البعث ليس تنظيمًا حزبيًا بحتًا، بل هو مشروع حضاري شامل، يهدف إلى “بعث الحياة العربية بكل معانيها وأبعادها”، كما ورد في خطاباته التأسيسية التي جُمعت في كتابه الخالد “في سبيل البعث”.
ومن هنا، جاءت العلاقة الجدلية بين التنظيم والفكرة في فكر البعث. فالتنظيم لم يكن غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق الفكرة الكبرى، أي النهضة العربية الشاملة. لقد شدد عفلق على أن التنظيم يجب أن يكون منسجمًا مع الفكرة القومية الوحدوية والروح الثورية للحزب، نابضًا بالإيمان العميق بالفكرة، لا جامدًا أو بيروقراطيًا. ومن هذا المنطلق، فإن الفرد البعثي لا يُقاس بموقعه التنظيمي، بل بمدى انصهاره في روح البعث وصدقه في تجسيد مبادئه، لأن “البعث لا يُخدم بالكلمات والمظاهر، بل بالتجرد والنضال والتضحية”.
أما على مستوى المنهج، فقد ارتكز فكر البعث على منهج جدلي علمي تاريخي، لا يكتفي بالتوصيف، بل يسعى إلى التغيير الواعي في ضوء فهم حركة التاريخ وواقع الأمة. فالاشتراكية في فكر البعث ليست مجرد تبنٍ لشعارات اقتصادية، بل هي رؤية حضارية لإنصاف الجماهير الكادحة وتحقيق العدالة ضمن خصوصية الواقع العربي. لقد حرص عفلق على أن الفكر القومي لا يجوز أن يكون جامدًا، بل يجب أن يتفاعل مع مستجدات العصر، مستلهمًا روح الأمة وتجاربها التاريخية، مستندًا إلى جدلية الواقع والمثل، والتوازن بين الأصالة والمعاصرة.
ولم يكن عفلق منظّرًا فقط، بل كان قائدًا ومناضلًا يعبّر عن قناعاته بمواقف واضحة في المحافل الفكرية والسياسية. واجه خصومه بثبات، وقاوم الاستعمار الفرنسي في ريعان شبابه وتطوع في حرب فلسطين مع عدد من الرفاق في عام 1948. كما تعرض للاعتقال في عهد الزعيم، وحُكم عليه بالإعدام بعد الردة الشباطية في سوريا في 23 شباط 1966، التي مثلت قمة المؤامرات على الحزب والأمة. كان عفلق مؤمنًا أن “العروبة وجدان قبل أن تكون لسانًا وثقافة، بعيدة عن التوصيف العنصري والإثني والطائفي، ورسالة قبل أن تكون سياسة”. وكان يرى أن الإيمان العميق بالقضية العربية هو مصدر القوة في مواجهة التحديات.
وعلى الرغم من كل ما تعرض له من حملات تشويه ونفي ومحاولات للإقصاء، فقد بقي رمزًا حيًا في ضمير الجماهير التي آمنت بأن مشروعه القومي لم يكن لحظة عابرة، بل رؤية متكاملة تعبر عن هوية الأمة وعن طموحها للتحرر والوحدة.
وإننا في ذكراه، نستحضر إرثه الفكري الذي لا يزال حيًا في ضمير كل الشرفاء والأحرار في كل أنحاء العالم، ونؤكد أن مشروعه النهضوي يظل أحد أنبل المحاولات المعاصرة لاستعادة دور الأمة في التاريخ.
رحمة الله عليك يا أبا البعث وعميده، يا من علمتنا أن “الانتماء للعروبة هو انتماء لحاضرها ولمستقبلها كما لماضيها”، يا من زرعت فينا الإيمان بأن “العرب أمة واحدة، وإن فرّقتهم الحدود، فهم يجتمعون في القلب والوجدان والمصير”.
Leave a Reply