الهدوء في زمن العاصفة: تنظيم الانفعالات كآلية للنجاة النفسية ودرع ضد دعوات الحرب

كتب: أمجد أحمد السيد

في خِضَّم أُتُون الحرب السودانية الممتدة ومع تصاعد مشاهد الألم والفقد برزت الحاجة المُلِحَّة إلى نوعٍ مختلفٍ من “النجاة”، ليس من الرصاص والقذائف فقط بل من الانهيار النفسي والانفعال المتكرر والاستنزاف العاطفي، هنا يتقدم مفهوم “تنظيم الانفعالات” كواحد من أبرز أدوات الصمود النفسي وآلية فعالة للحفاظ على التوازن العقلي في بيئة أصبحت فيها الكارثة جزءًا من اليومي.

في علم النفس يشير تنظيم الانفعالات إلى قدرة الفرد على التعرف على مشاعره وإدارتها بطريقة صحية، بدلاً من الاستسلام لها أو كبتها، ويتضمن هذا ضبط ردود الأفعال تجاه المثيرات اليومية سواء كانت فقدانًا أو خطرًا أو ظلمًا بطريقة تحافظ على سلامة الجهاز العصبي واستقرار التفكير.

لكن في سياق الحرب السودانية يأخذ هذا المفهوم بعدًا وجوديًا فالانفعال المستمر تجاه الأخبار المؤلمة “مشاهد النزوح، انهيار الخدمات، موت الأحبة، والخوف من المستقبل” يستهلك من الإنسان طاقته أكثر مما يفعل العدو، الكثير من السودانيين باتوا يكتشفون اليوم أن النجاة لا تعني فقط الاختباء من القصف بل الاحتماء من الانهيار الداخلي.

قد يُساء فهم التنظيم الانفعالي أحيانًا على أنه نوع من البلادة أو انعدام الإحساس، لكن الحقيقة أنه مهارة مكتسبة تشبه إلى حد بعيد بناء المناعة النفسية، أن تكون أقل تفاعلاً لا يعني أنك لا تشعر بل أنك لا تسمح للمشاعر بأن تكسرك في كل مرة.
في مجتمع يعيش تحت ضغط الحرب يصبح الانفعال اليومي مبررًا بل وأحيانًا مطلوبًا، لكنه حين يتحول إلى عادة دائمة يصبح مصدرًا للتآكل الداخلي يهدد استقرار الأسرة والعلاقات والمجتمع كله.

كم من شخص انفجر في وجه أطفاله بسبب التوتر؟ كم من أم فقدت السيطرة لأنها لم تعد تملك مساحة آمنة للتنفس؟ كم من شاب بات لا يثق في شيء، لأن كل خبر يصله يحمل مأساة جديدة؟ في هذا المناخ يصبح الهدوء فضيلة بل آلية بقاء نفسي.

من بين مظاهر الانفعال التي تستنزف الوعي الجمعي في السودان اليوم، ذلك الانسياق العاطفي الأعمى وراء دعوات استمرار الحرب التي غالبًا ما يُطلقها ويُروج لها أفراد وجماعات لا يشاركون الشعب معاناته الفعلية بعضهم يقيم في الخارج يمارس حياته في أمان يحتضن أطفاله ويمضي يومه في وظيفة مستقرة ثم يُرسل عبر منصات التواصل رسائل تحريض ومقاومة عن بعد بينما الوطن يحترق.

أسوأ من هؤلاء هم المرتبطون مصلحيًا بالحرب ممن وجدوا في الانهيار فرصة للصعود أو للظهور أو لجني الأموال سواءً من “قونات” يطلقن الأغاني لرفع المعنويات على أنقاض البيوت المنهارة أو من فنانين باعوا رسالتهم وكرامتهم مقابل فتات السلطة أو المال هؤلاء لا يمثلون الشعب ولا يستحقون أن نمنحهم مفاتيح وعينا.

إن التنظيم الانفعالي لا يعني فقط الصبر على الألم بل أيضًا التمييز بين الصوت الحقيقي للأرض وصوت التحريض المُعلب من الخارج عدم التفاعل المفرط هنا ليس ضعفًا بل وعي سياسي وأخلاقي لأن الحرب لا يجب أن تُدار بردود الأفعال بل برؤية تحفظ ما تبقى من الوطن.

كيف نحمي أنفسنا عبر تنظيم الانفعالات؟

التنفس والتأمل تخصيص دقائق يوميًا لاستعادة التنفس العميق والصمت الداخلي.

الانفصال الواعي تقنين استهلاك الأخبار وعدم تحويل المآسي إلى مشهد يومي لا ينتهي.

إعادة صياغة التفكير بدلاً من كل شيء ينهار التفكير بـ” ما زال هناك ما يمكن إنقاذه”…..

دعم الذات والمجتمع بناء شبكات دعم نفسي حتى ولو محدودة لتبادل القوة لا الضعف فقط.

في النهاية علينا الاعتراف بأن الحرب لا تقتل فقط من يسقطون بالقصف أو يتيهون في النزوح بل تقتل ببطء كل من يفقد السيطرة على ذاته ويتآكل من الداخل بفعل الانفعال الدائم والعجز المتكرر.

أن تصبح أقل تفاعلاً مع كل شيء ليس خيانة للألم بل احترام لطاقتك النفسية وصيانة لعقلك وقلبك ليواصلا حملك وسط الخراب
الهدوء في هذه الحالة ليس ضعفا بل وعيٌ حقيقي بأن الحفاظ على النفس هو أول معركة يجب أن نربحها قبل أيّ معركةٍ أخرى.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.