
بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
المقدمة:
في زمن الخوف الجماعي، واليقين السهل، والتصحر الروحي، ظهر نوع جديد من التدين لا علاقة له بجوهر الإيمان، بل هو أقرب إلى التمثيل الديني منه إلى التحقق الوجودي. هذا هو التدين الاصطناعي: خطاب يُعلّق على الجدران، لحى تُطلق دون بصيرة، حجاب يُلبس دون وعي، أدعية تُتلى بلا خشية، ومساجد تُبنى بترف الملوك دون أن تمسّ الفقراء في قلوبهم.
فهل نحن متدينون حقًا، أم أننا فقط نمارس طقوسًا موروثة لأجل الوجاهة أو الهروب من قلق الحداثة؟ هل صرنا نتدين كما نلبس الزي الرسمي؟ متى انفصل الدين عن الأخلاق، وتحول إلى سلطة رمزية؟ ومتى أصبح الإيمان مسألة شكل، لا سؤال معنى؟
التدين الاصطناعي ليس ظاهرة هامشية، بل هو في كثير من السياقات السائدة، الدين المهيمن نفسه. بل هو الشكل الذي يُقدّم فيه الإسلام اليوم في أغلب المنابر والفضائيات وخطب الجمعة. وقد يكون أخطر من الإلحاد الصريح، لأنه يُفرغ الدين من روحه، ويحوله إلى نظام رقابة اجتماعية، لا تحرير فردي.
تناقضات التدين الاصطناعي: ما يميز التدين الاصطناعي هو التناقض الفجّ بين الشكل والمضمون: فترى المتدين يكثر من الذكر، لكنه لا يعرف الرحمة. يتحدث عن الجنة، لكنه يسكن قلبه جحيم الكراهية. يرفض كشف شعر المرأة، لكنه لا يجد حرجًا في الكذب والغش وأكل أموال الناس. فيصبح الدين، لا كما قال محمد إقبال “قوة روحية تهذب الإرادة”، بل نظامًا من الرموز واللافتات، يخفي خواء المعنى.
في التدين الاصطناعي، لا تُقاس درجة الإيمان بعمق العلاقة مع الله، بل بعدد المشاركات الدينية على فيسبوك، وطول اللحى، وتكرار عبارة “جزاك الله خيرًا” دون أن تكون الرحمة مشروع حياة. تصبح المساجد مزدحمة في رمضان، لكن المحاكم ممتلئة بالخصومات، والشوارع مملوءة بالظلم. باختصار، يتحول الدين إلى بذلة اجتماعية، نرتديها لا لنكون أفضل، بل لنبدو كذلك.
جذور التدين الاصطناعي:
التدين الاصطناعي لا يظهر في فراغ. إنه ابن الدولة الأمنية حين تستعمل الدين كوسيلة للضبط، وابن المؤسسة الدينية الرسمية حين تحوّل الإسلام إلى خُطب محفوظة، وابن السوق حين يختزل الدين إلى منتجات: حج “خمس نجوم”، وزيوت قرآنية، ومسابح معطرة، و”ختمة VIP”.
بل إن التدين الاصطناعي في الوطن العربي يرتبط بمطلب الاستقرار أكثر من مطلب التحرر. فيُروّج لتدين يكرّس الطاعة، يُمجّد الصبر على الظلم، ويحرّم الثورة على الجائر، ويحوّل الجنة إلى تعويض نفسي للفقر، بدل أن يكون الدين مشروعًا لتحرير الإنسان من الداخل.
وهنا، يصبح الدين أداة في يد النظام الاجتماعي: “لا تسأل، آمن”، “لا تغضب، صلّ”، “لا تطالب بحقك، انتظر الأجر في الآخرة”. يصبح الإيمان وظيفة روحية لا تستدعي مساءلة الذات، بل تأكيد الانصياع.
التدين الاصطناعي يختزل الدين إلى فريق كروي: نحن وهم، سنة وشيعة، جماعة وحزب، متدينون وعلمانيون. بينما الدين الحق لا يُصنّف الناس، بل يعيد الإنسان إلى نفسه. لقد عرف الإسلام لحظات إشراق روحي هائل مع التصوف الحقيقي، حين كان الدين علاقة حميمة بين العبد وربه. أما الآن، فقد غابت المجاهدة، وسادت المرآة: كيف أبدو لا من أكون.
ليس الخطر في أن يكون للناس طقوس، بل في أن تتحول الطقوس إلى بديل عن الأخلاق. حين يقول أحدهم “أنا مسلم” لكنه لا يشعر بوخز الضمير وهو يظلم أو يكذب أو يحتقر الآخرين، فاعلم أن التدين قد انفصل عن التزكية، وصار مجرد غطاء.
من علامات التدين الاصطناعي في الواقع العربي:
- التناقض: ترى المجتمعات تزدهر فيها المساجد والبرامج الدينية، ومع ذلك تنتشر فيها الرشوة، والتمييز، والعنف الأسري، والتحرش، والغيبة، والتشهير.
- التمظهر: كثيرون يحرصون على الصلاة أمام الكاميرا، أكثر من حرصهم على ستر الضعفاء، أو قول الحق في وجه الطغاة.
- التوظيف السياسي: تُستخدم الفتاوى لتثبيت الحاكم، لا لتثبيت العدل، وتُحرّم المظاهرات لكنها تُبيح التعذيب في السجون.
- استهلاك الرموز: الدين يُستهلك كسلعة: “لباس شرعي”، “أناشيد ملتزمة”، “مطرب تائب”، لكن المحتوى الفعلي خاوٍ من المضمون الأخلاقي أو المعرفي.
سبيل العلاج والعودة إلى الأصالة:
لا علاج للتدين الزائف إلا بالعودة إلى أصل الدين: أن الإيمان ليس فقط أداءً، بل إدراك. ليس فقط قولًا، بل مسار. ليس شعائر فقط، بل شعور. الدين الذي لا يغيّر قلب الإنسان، لا قيمة له. والدين الذي لا يدفع نحو الحرية والرحمة، يتحوّل إلى عبودية باسم الرب.
الإيمان الأصيل لا يُعلن نفسه، بل يُرى في سلوك صاحبه. لا يُعادي المختلف، بل يستوعبه. لا يُغلق على الذات، بل ينفتح على العالم. وإذا كان الله لا ينظر إلى صورنا ولكن إلى قلوبنا، فإن أول خطوة للخروج من التدين الاصطناعي، هي أن نغلق المرايا، ونفتح أبواب القلب.
الخاتمة:
في زمن الميديا، أصبح كل شيء قابلًا للتصوير، حتى الإيمان. لكن التدين الحقيقي لا يُلتقط بعدسة، بل يُكتشف في لحظة صدق بين العبد وربه. نحن لا نحتاج إلى مزيد من الشعارات، بل إلى جرأة السؤال: ما الذي يجعل ديني حيًا في قلبي؟ وما الذي يجعلني إنسانًا أفضل، لا فقط متدينًا أكثر؟
إن العودة إلى الدين الحق لا تمر عبر زيادة البرامج الدينية، ولا عبر إطلاق اللحى وارتداء النقاب فحسب، بل تمر عبر ثورة روحية تعيد للإيمان معناه: أن يكون صلة، لا سلطة. حرية، لا وصاية. محبة، لا انغلاقًا.
وحين نصل إلى تلك المرحلة، سيكون الدين فعلًا يُعاش، لا طقسًا يُستهلك. وسيكون الله حاضرًا في القلب والسلوك، لا فقط على اللافتات.
Leave a Reply