
بقلم: أ. عبد الله رزق أبوسيمازا
المقدمة:
ليس العمل الوحدوي مجرد حنين سياسي أو شعار تعبوي يليق بخطب المنابر، بل هو، في جوهره الأعمق، تعبير عن وحدة المعاناة ووحدة المصير ووحدة الأفق في مواجهة استراتيجيات التفتيت والإزاحة. وإذا كانت الحدود الجغرافية اليوم قد باتت أمرًا واقعًا تكرست بفعل إرادات الاستعمار، فإن فكرة الوحدة لا تزال هي الرد الأصدق على سؤال “من نحن؟” في زمن التذرر والهويات الجزئية. والحديث عن “تكامل السودان ومصر” ليس استثناءً في هذا السياق، بل هو من أكثر النماذج الوحدوية تاريخًا وتشابكًا وتعقيدًا، ومن هنا أهميته كمختبر فكري وتحليلي لمستقبل المشروع القومي.
حين نمعن النظر في خريطة وادي النيل، لا نراه مجرد نهر عابر للحدود، بل شريانًا جيوهيدروليكيًا حضاريًا، صنع وحدة المصالح ووحدة الثقافة ووحدة الأمن. السودان ومصر – بحكم الجغرافيا والتاريخ واللغة والدين والاقتصاد – يشكلان “توأم السيادة المهدورة” في العصر الحديث، وقد كانا دومًا، كما يقول هشام شرابي، “نموذج الأمة التي لم تكتمل”. فالتكامل بينهما ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية في عصر السيادة المهددة والتبعية المعولمة.
منذ ممالك كوش ومروي ونبتة، ثم في ظل الدولة السنارية، إلى المهدية والخديوية، ظل السودان ومصر يتداخلان في دورات السلطة والثقافة والتجارة والمقاومة. لكن المفارقة أن مشروع الدولة الحديثة جاء تحت ظلال الاستعمار البريطاني، الذي أقام نظامًا ثنائيًا ألغى به كل أشكال السيادة المشتركة. ورغم ذلك، لم تمت فكرة الوحدة. فقد عبرت ثورة 1924 السودانية، بقيادة اللواء الأبيض، عن وعي مبكر بوحدة الكفاح مع مصر، ووحدة النضال ضد الاستعمار. وواصلت الأحزاب السودانية الكبرى، كالأمة والوطني الاتحادي، رفع شعار وحدة وادي النيل، خاصة في خمسينات القرن الماضي، حيث اتخذت الوحدة السياسية مع مصر آنذاك شعارًا مركزيًا لنيل الاستقلال.
في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، لم تكن الوحدة العربية شعارًا رومانسيًا، بل شرطًا من شروط التحرر والنهضة. ولذلك، ظلت العلاقة مع مصر، في تجربة البعث السوداني، تمثل أحد محاور الالتزام القومي، الذي ترجمته المواقف السياسية، والبرامج الاقتصادية، والمبادرات الثقافية والإعلامية. وقد نصت وثيقة “البعث وقضايا النضال الوطني في السودان” (1974) على أن “الوحدة مع مصر هي واجب قومي واستراتيجي، وليست خيارًا ظرفيًا”، داعيةً إلى تحويل التكامل إلى مؤسسة دائمة، وليس إلى لحظة توافقية عابرة.
في ظل التحولات المعاصرة، وخاصة بعد غزو العراق، وقيام سد النهضة، والحرب في السودان، صار العمل الوحدوي لا يحتمل التأجيل. إن مقولة الشهيد صدام حسين “نعمل في حدود الممكن دون أن ننسى الطموح” يجب أن تكون منارة عملية للعمل الوحدوي اليوم، خاصة في ظل تشظي الجامعة العربية، وتراجع الفاعلية الإقليمية. في هذا السياق، يبدو تكامل السودان ومصر – في السياسة والاقتصاد والثقافة والدفاع – ضرورة واقعية لا يكتمل الأمن القومي لكليهما بدونها.
تُشكل العلاقة الوحدوية بين السودان ومصر نموذجًا معقدًا لتداخل الأبعاد الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يفرض قراءة متعددة المستويات لهذه العلاقة، إذ يمكن تحليلها عبر ثلاثة أبعاد تكاملية مركزية: البعد الأمني، والبعد الاقتصادي، والبعد الثقافي والتعليمي.
أولًا: البعد الأمني – أمن مائي واستراتيجي مشترك:
في قلب العلاقة بين البلدين ينبض النيل، ذلك الشريان المائي الذي لا يُشترى بثمن ولا يُعوّض بثروة. إن أمن المياه لا يتوقف عند حدود الجغرافيا أو السيادة الوطنية بمعناها التقليدي، بل يمتد ليشمل مفهوم الأمن القومي الشامل. سد النهضة الإثيوبي، بكونه مشروعًا تحوليًا يمس أساسيات التوازن المائي في حوض النيل، هو اختبار حقيقي لشراكة أمنية فاعلة بين مصر والسودان. إذ لا يمكن لأي منهما أن يواجه هذا التحدي منفردًا، بل يتطلب تكاملهما السياسي والعسكري والدبلوماسي لضمان حقوقهما التاريخية في المياه، وتفادي أي تهديد مباشر لاستقرار المنطقة.
كما يمثل البحر الأحمر منطقة ذات أبعاد أمنية استراتيجية، فتنسيق السياسات الدفاعية، وتعزيز التعاون في مراقبة الساحل، ومواجهة التهديدات البحرية، هما من صميم الأمن المشترك. فهذه المنطقة تمثل نقطة تماس حيوية في الأمن القومي لكل من السودان ومصر، وتأمينها هو شرط لخلق بيئة مستقرة تمكن الاقتصاد والمجتمع من الازدهار.
ثانيًا: البعد الاقتصادي – التكامل كدعامة للاستقرار والتنمية:
الاقتصاد هو العمود الفقري لأي مشروع وحدوي، والتكامل الاقتصادي بين مصر والسودان يمكن أن يكون نقطة الانطلاق الحقيقية لتوطيد العلاقات الثنائية، والتأسيس لوحدة فعلية تتجاوز الشعارات. في هذا الإطار، يعد التكامل الزراعي من أهم المجالات، فالمناخ والموارد الطبيعية والتربة في السودان مكملة لما يمتلكه المصريون من خبرات زراعية وتقنيات حديثة. التنسيق في هذا المجال ليس مجرد تعاون اقتصادي، بل استثمار في الأمن الغذائي الإقليمي، وتعزيز القدرة على مواجهة الأزمات العالمية.
الموانئ، ولا سيما ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، تمثل بوابة حيوية للتبادل التجاري بين البلدين، فضلًا عن ربطها بالأسواق العالمية. تنسيق السياسات الجمركية وتسهيل الحركة التجارية عبر الحدود، بالإضافة إلى إحياء “الحريات الأربع” – حرية التنقل، حرية التجارة، حرية الاستثمار، وحرية العمل – يُعد ركيزة مهمة لتحقيق التنمية المشتركة وخلق فرص اقتصادية تعزز الاستقرار الاجتماعي.
ثالثًا: البعد الثقافي والتعليمي – بناء الوعي بوحدة النيل:
لا تكتمل الوحدة بدون بناء مشترك للوعي الثقافي والتعليمي، فهو الذي يعزز اللحمة بين الشعوب ويدفع نحو مشروع مشترك مستدام. المناهج الدراسية في كلا البلدين تمثل نقطة انطلاق رئيسية لإعادة صياغة هذه الوحدة في وعي الأجيال القادمة، عبر تضمين التاريخ المشترك، والثقافة المتبادلة، وقيم التعاون والسلام.
الإعلام، كوسيط فعال في تشكيل الرأي العام، عليه مسؤولية ضخمة في تعزيز هذه القيم، عبر برامج مشتركة تسلط الضوء على قصص النجاح، والتاريخ المشترك، والتحديات التي تواجه المشروع الوحدوي. الإعلام الحر والمسؤول يمكن أن يكون جسرًا يعبر به الشباب نحو رؤية جديدة تتجاوز الانقسامات التقليدية.
أما النخبة المتعلمة، فهي القلب النابض الذي ينبغي أن يقود هذه العملية، عبر بحوثها، ومبادراتها الأكاديمية، وورش العمل المشتركة التي تكرس التفاهم والتقارب. وعي النيل المشترك ليس مجرد وعي تاريخي أو جغرافي، بل هو مشروع ثقافي فلسفي يتطلب تأسيس فضاء فكري جديد، يربط بين الماضي المجيد والتطلعات المستقبلية، ويُحرض على التفاعل الإيجابي بدلًا من الجمود أو الاغتراب.
هذه الأبعاد الثلاثة لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تُشكل شبكة مترابطة من التفاعلات التي ينبغي أن يتعامل معها المشروع الوحدوي بذكاء استراتيجي، يضمن لكل بعد مساحته، ويعزز تكامله مع الأبعاد الأخرى، في مسعى لتأسيس وحدة فعلية تُعبر عن إرادة الشعوب وتحقق مصالحها في مواجهة تحديات الزمن الراهن.
إن استقبال مصر لمليون ومائتي ألف سوداني في ظل الحرب، كما تشير الباحثة أماني الطويل، ليس مجرد موقف إنساني، بل تعبير عن رصيد حضاري مشترك يمكن أن يُبنى عليه دور جديد لمصر في دعم التسوية السودانية، شريطة أن يُنظر إلى ذلك بوصفه مصلحة قومية، لا مِنّة سياسية. كما أن تفعيل التعاون مع القوى السودانية المدنية، والنظر بعين استراتيجية إلى ملف حلايب، ومياه النيل، والأمن في البحر الأحمر، يمكن أن يعيد تشكيل التوازنات في الإقليم برمته.
وفي هذا السياق، لا بد من مساءلة المفهوم ذاته الذي يحدد الإقليم والوطن والدولة، خاصةً في النزاعات الحدودية مثل قضية حلايب وشلاتين. فالحدود التي نشأت عن المرحلة الاستعمارية ليست مجرد خطوط جغرافية ثابتة تُعبر عن إرادة تاريخية أو جغرافية طبيعية، بل هي “اختراع سياسي” صُمم لضبط الشعوب وتفكيك الأواصر العضوية بينها. كما يُبرز بنديكت أندرسون في أطروحته الشهيرة “الجماعات المتخيلة”، فإن الأمة الحديثة تقوم على بناء تصوري يشمل رموزًا وخطاباتٍ وحدودًا لم تكن موجودة قبل الحداثة السياسية. ويُعمّق طلال أسد هذا التحليل مشيرًا إلى أن مفاهيم السيادة، والهوية، والحدود، قد أُنتجت في سياق معرفي استعماري، هدفه تقنين الخضوع وتفكيك السيادات الثقافية والتاريخية خارج منطق الدولة القومية الحديثة.
وبناءً عليه، فإن ما يُسمى “الحدود الوراثية” بين السودان ومصر ليست سوى تمثيل جغرافي لمشروع تفتيتي تأسس على مبدأ “فرق تسد”، وليس امتدادًا طبيعيًا أو عضويًا للتاريخ أو الثقافة أو الجغرافيا. ومن ثم، فإن الاحتكام إلى هذه الحدود كمصدر حصري للشرعية هو استمرارية ضمنية لمنطق الاستعمار، حتى عندما تُرفع بشعارات وطنية. فالتحرر الحقيقي لا يكتمل بمجرد إجلاء المستعمر، بل يشترط إعادة نقد شامل للمفاهيم التي خلفها، وفي مقدمتها مفهوم الدولة، وحدودها، وهويتها.
لذلك، فإن تجاوز النزاع حول حلايب لا يتحقق بالانغلاق في سرديات قانونية جامدة، بل يتطلب إعادة التفكير العميق في العلاقة بين الدولة والهوية، وبين الأرض والذاكرة، بما يتيح بناء مشروع وحدوي عقلاني وإنساني، تتقدم فيه السيادة المشتركة على النزاع السيادي، ويعلو فيه صوت التاريخ المشترك على الحدود المرسومة بالمسطرة الاستعمارية.
خاتمة:
لقد أثبت التاريخ أن العلاقة بين السودان ومصر ليست مجرد امتداد جغرافي أو ارتباط ثقافي فحسب، بل هي تلاقٍ عميق لوعي مشترك ومصير متشابك، يفرض تحديات الوحدة والتكامل كخيار استراتيجي لا غنى عنه. وإن تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان، التي وضعت وحدة وادي النيل في صلب مشروعها الوطني والقومي، تقدم نموذجًا مهمًا ودرسًا قيمًا في كيفية ترجمة الروابط التاريخية والجغرافية إلى مشروع سياسي متماسك. في ضوء هذه التجربة، يمكن اقتراح خطوط عامة لبرنامج وطني للحوار بين القوى السياسية في السودان ومصر، يرتكز على أساسات استراتيجية متينة:
– إعادة بناء الثقة المشتركة: عبر منصات حوارية مفتوحة تشمل ممثلين عن الأحزاب، الحركات الشبابية، والقطاع المدني، تنطلق من تاريخ مشترك وتعترف بالمآسي والتحديات، وتضع هدفًا واضحًا لتجاوز التوترات القديمة وتشكيل رؤية مستقبلية موحدة.
– تأسيس إطار سياسي موحد للتكامل: يشمل اتفاقيات أمنية مشتركة، تنسيق في السياسات الخارجية، وسياسات تنموية تعزز التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين، مع الحفاظ على سيادة كل دولة، وانطلاقًا من مبدأ “التكامل في التنوع“.
– تفعيل البعد الثقافي والتعليمي: عبر تبادل برامج تعليمية، ثقافية، وإعلامية تبرز وحدة النيل وقيم التعاون، وتخلق وعيًا جماهيريًا يدعم الوحدة الحقيقية بين الشعبين.
– التركيز على الأبعاد الشعبية: عبر دعم مبادرات المجتمع المدني، وتحفيز حوار الأجيال الشابة، ومشاركة المنظمات غير الحكومية في تعزيز الشعور بالانتماء المشترك.
– مواجهة التحديات المعاصرة بشكل مشترك: من تداعيات سد النهضة إلى قضايا الأمن الإقليمي، وضرورة بناء استراتيجية موحدة للمياه والأمن، تنبثق من مصالح البلدين المشتركة وأهداف التنمية المستدامة.
إن هذا البرنامج الوطني للحوار والتكامل ليس مجرد حلم أو شعار، بل هو دعوة للعمل الجاد والتخطيط العلمي المستند إلى تجارب الماضي وفهم عميق لمتطلبات الحاضر وآفاق المستقبل. وفيه تكمن القدرة على تحويل وحدة وادي النيل إلى نموذج حضاري يُلهم الأمة العربية في مسعاها لاستعادة مشروع الوحدة والكرامة والعدالة.
فهل تمتلك القوى السياسية والشعبية في مصر والسودان الشجاعة والوعي لرفع هذا التحدي، وإعادة كتابة فصل جديد في تاريخ العلاقة بين شعبين أخوين، في زمن يتطلب فيه المستقبل منا أكثر من مجرد الذاكرة، بل الإبداع والعمل المشترك؟
الملحق البياني: محطات بارزة في مسار العلاقة السودانية–المصرية:
Leave a Reply