تايوان: الحرب الخفية التي تُعيد رسم وجه الحضارة

بقلم: طارق عبداللطيف أبوعكرمة

في قلب الصراع الكوني على المستقبل، تقف تايوان ليست كمجرد جزيرة جغرافية، بل بوصفها البوابة العصبية لنظام عالمي جديد تُعاد هندسته. المسألة لم تعد نزاعًا على السيادة بين بكين وتايبيه، بل على ملكية الذكاء نفسه. من يملك القدرة على صناعة العقل الرقمي، يملك القرار في تشكيل مصير الحضارة. فمن رحم الجغرافيا الضيقة خرجت تايوان لتصبح المركز العصبي لصناعة الرقائق الدقيقة، تلك الشرائح التي باتت تمثل العمود الفقري للاقتصاد العالمي، والسيادة التكنولوجية، والأمن القومي للدول.

على ضفتي الصراع، تتموضع قوتان تنظران إلى تايوان بعدسات متباينة لكن متقاطعة: الصين، التي تعتبر الجزيرة جزءًا لا يتجزأ من سيادتها التاريخية، لا تنظر إلى الأمر بعين عاطفية أو قومية فقط، بل من خلال ضرورة استكمال طموحها للهيمنة التكنولوجية. فالصين، وقد نجحت في الانتقال من مرحلة “صُنع في الصين” إلى مرحلة “ابتُكر في الصين”، تدرك أن الوصول إلى السيادة على سلاسل إنتاج الرقائق الدقيقة يعني تجاوز الولايات المتحدة في أهم ميدان استراتيجي في القرن الحادي والعشرين: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الفائقة، والتكنولوجيا العسكرية.

أما الولايات المتحدة، فهي لا تخوض معركة “دفاع عن الديمقراطية” كما تزعم، بل تسعى لحماية تفوقها الإمبراطوري القائم منذ الحرب العالمية الثانية. بالنسبة لواشنطن، تايوان هي الجيب الأخير الذي يضمن لها تفوقها الصناعي والمعرفي. فشركة (TSMC) التايوانية، التي تنتج أكثر من 90% من أشباه الموصلات المتقدمة (Brown & Singh, 2023)، تمثل بالنسبة للبنتاغون والبيت الأبيض صمام أمان استراتيجي لا يمكن التفريط به. إذ أن تكنولوجيا اليوم لا تُبنى بالطائرات والدبابات فقط، بل عبر ترانزستورات متناهية الصغر تُحدد نتائج المعارك مسبقًا قبل أن تُطلق الطلقة الأولى.

ولم تكتفِ واشنطن بالدعم الخطابي، بل أسست تحالفًا مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والفلبين، وعززت وجودها العسكري حول الجزيرة. ويُذكر أن قاعدة “كادينا” في أوكيناوا تُعد من أكبر قواعد سلاح الجو الأمريكي في آسيا، وتوفر مظلة ردع غير معلنة لحماية منشآت (TSMC) (U.S. Indo-Pacific Command, 2022). كما تُعزز الولايات المتحدة سيطرتها على سلاسل الإمداد من خلال شركات عملاقة مثل (Intel) و (NVIDIA)، وتتقدم في الابتكار عبر تمويلات وكالة (DARPA)، ومبادرات مثل (CHIPS and Science Act (2022)) الذي خصص 52 مليار دولار لتحفيز الصناعة المحلية.

الصراع لا يُدار بالمدافع وحدها. فالحرب على تايوان هي في جوهرها حرب على بنية العقل العالمي. ذلك أن من يُمسك بمفتاح الرقائق، يُملي على الآخرين شروط الإنتاج، والتفكير، والإبداع. المفارقة التاريخية أن البشرية، التي حلمت بأن التكنولوجيا ستُحررها، تجد نفسها اليوم مستعبدة من قِبل مراكز إنتاج محددة، تُملي وتُقنّن وتُقصي. إنها لحظة ماركوزية بامتياز، حيث “الحرية” تُبتلع بهدوء تحت عباءة الكفاءة الرقمية. كما حذّر هربرت ماركوز من أن الإنسان الحديث يُصبح أحادي البعد، متصالحًا مع اغترابه طالما كانت أدوات التكنولوجيا بين يديه، نشهد اليوم كيف أن الدول نفسها باتت تُعيد ترتيب أولوياتها بما يتوافق مع مركزية الرقائق لا مركزية المبادئ.

وفي خضم هذا الصراع، لم تكن تايوان سلبية. بل لعبت ورقة الجغرافيا السياسية بدقة، فدعمت إنشاء مصانع جديدة لـ (TSMC) في ولاية أريزونا، في شراكة مباشرة مع وزارة التجارة الأمريكية، لتقليل مخاطر الاعتماد على إنتاجها المحلي (Lee, 2023). وبذلك، تحاول تايوان التوازن بين حماية استقلالها الاقتصادي والتقني، وبين تجنب استفزاز الصين التي ترى هذه الخطوات تهديدًا مباشرًا.

الصين تحاول استعادة المبادرة من خلال استراتيجية تُعرف بالتوطين التكنولوجي. لقد خصصت بكين مئات المليارات من الدولارات للاستثمار في الصناعات الدقيقة، وأطلقت ما يُعرف بـ “مشروع الصين 2025” الذي يهدف لجعلها مستقلة تكنولوجيًا، خاصة في مجالات مثل أشباه الموصلات، والروبوتات، والتقنيات الطبية المتقدمة (Kuo & Zhang, 2021).

في المقابل، جاء الرد الأمريكي عبر “قانون الرقائق” (CHIPS Act)، الذي يسعى لإعادة التوازن في سلسلة الإمداد العالمي من خلال بناء مصانع متقدمة في ولايات مثل تكساس وأريزونا، وإعادة تموضع الشركات مثل (Intel) و (Micron) داخل الحدود الأمريكية.

لقد دخل العالم مرحلة من “الحرب الباردة الرقمية”، حيث لا تُسقط الطائرات، بل تُحجب البرمجيات، وتُقيد الصادرات، ويُعاقب العلماء بالمنع من الوصول إلى المختبرات. يُمكن مقارنة بعض الإجراءات التقييدية بين الجانبين: ففي مجال صادرات الرقائق، تفرض الولايات المتحدة حظر تصدير رقائق 7nm إلى الصين، بينما تفرض الصين قيودًا على تصدير معادن نادرة. وعلى صعيد الشركات المستهدفة، تستهدف الولايات المتحدة شركات مثل Huawei, SMIC, وTikTok، في حين تستهدف الصين شركات مثل Apple وMicron. أما أدوات التقييد، فتستخدم الولايات المتحدة القوائم السوداء ومنع البرمجيات، بينما تعتمد الصين على التحكم في تراخيص الاستثمار الأجنبي. وفي مجالات البحث المقيدة، تقيّد الولايات المتحدة الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، بينما تقيّد الصين التكنولوجيا الحيوية وإنترنت الأشياء.

وفي قلب هذا الصراع، تبدو الدول العربية كأنها خارج الزمن، لا بوصفها حيادية، بل كمفعول به تكنولوجيًا. إذ بات واضحًا أن غياب مشروع علمي عربي حقيقي يجعل من هذه الأمة متلقية لا خالقة. نحن نستهلك الذكاء الاصطناعي ولا نُسهم في بنائه، نشتري الأجهزة ولا نصنع شرائحها، ونُدرّس علوم البيانات دون أن ننتج بياناتنا السيادية.

ورغم هذا الواقع، بدأت بعض المبادرات الفردية تظهر. فالمملكة العربية السعودية أطلقت “مركز الثورة الصناعية الرابعة” بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، وبدأت باستثمارات في البنية التحتية للحوسبة عالية الأداء. كما أسست الإمارات مركز (G4) الذي يسعى لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر شراكات دولية. إلا أن هذه المبادرات ما تزال تُدار بمفاهيم السوق أكثر من الرؤية الحضارية الشاملة.

المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في غياب الرؤية الفلسفية. لقد استقالت النخبة العربية من التفكير في المشروع الحضاري، وانشغلت بمعارك الهامش، مناهج لا تزرع الشك العلمي، جامعات تُخرّج مقلدين لا مبدعين، وإعلام يعيد تدوير السطحيات بدل أن يُنتج سردية سيادية. نحن بحاجة إلى تحالف بين الفيلسوف والمهندس، بين صانع الرؤية وصانع المعالج، تمامًا كما فعل الغرب حين وحّد بين ديكارت ونيوتن، وبين هيغل وفاراداي.

تايوان ليست مجرد جزيرة، بل مرآة تَكشف مستقبلنا، إما أن نصنع أدواتنا، ونُشكّل نظامنا التقني بمعاييرنا، أو أن نُبقي رؤوسنا داخل الرمال، بينما يُعاد تشكيل العالم بغير إرادتنا. السؤال المطروح اليوم ليس كيف نحمي سيادتنا، بل هل نملك أصلًا عقلًا سياديًا؟ إن الإجابة تتطلب أكثر من كلمات، إنها تحتاج ثورة فكرية تُعيد تشكيل علاقتنا بالتكنولوجيا، لا كمستهلكين، بل كمؤسسين للوعي التكنولوجي.

إننا نعيش لحظة فاصلة لا تُقاس فيها مكانة الأمم بعدد الجنود، بل بعدد الترانزستورات في الشريحة الواحدة. ومن لا يُدرك أن الحضارة اليوم تُبنى من خلال العقل الرقمي فسيبقى هامشيًا في سردية المستقبل، مجرد سوقٍ لمخترعات الآخرين، لا صانعًا لها.

المراجع:

  1. Brown, J., & Singh, A. (2023). Taiwan’s Semiconductor Supremacy. Foreign Affairs.
  2. Kuo, D., & Zhang, Y. (2021). Made in China 2025 and Techno-Nationalism. East Asia Forum.
  3. Lee, C. (2023). TSMC’s Arizona Gamble: Between Alliances and Autonomy. Asia Times.
  4. U.S. Indo-Pacific Command (2022). Strategic Posture Report.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.