النساء الحديديات: اقتصاد الكارثة والقيادة من تحت الأنقاض

بقلم: طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
ليست الحرب مجرد نزاع بين قوتين، بل هي فالقٌ اجتماعيٌ يكشف عن البنى التحتية الحقيقية للمجتمعات، ويعيد توزيع الأدوار وفق منطق الضرورة لا التقاليد. ومن بين أبرز ملامح هذا التحول في زمن النزوح، تقف المرأة، لا بوصفها ضحيةً فقط، بل بوصفها مركزَ ثقلٍ جديد، ورقماً أصيلاً في معادلة الاقتصاد غير المرئي، والقيادة المجتمعية غير الرسمية.
في السودان، كما في سوريا واليمن وأماكن أخرى ضربتها العواصف المسلحة، تشير الإحصاءات الصادمة إلى أن 72% من الأسر النازحة تعولها نساء. لكن هذا الرقم، وإن بدا عادياً في لغة تقارير المنظمات، إلا أنه في الحقيقة شهادة على ثورة اجتماعية صامتة، تجري تحت أنقاض المدن، وفي معسكرات اللجوء، وفي الأسواق العشوائية، وفي أكواخٍ تحولت إلى مراكزَ للتفاوض مع الحياة. فحين يغيب الذكور – قتلاً أو تجنيداً أو اغتراباً – تقف النساء، ليس فقط لتطعم أبناءها، بل لتُعيد بناء معنى النجاة ذاته.
هذه القيادة النسائية لم تولد من تدريبٍ أو تمكينٍ رسمي، بل من فعل النجاة ذاته، من اليوميات القاسية التي تختبر فيها النساء معنى الإدارة في ظل الندرة. فمن إدارة الغذاء القليل، إلى تدبير المياه، إلى التفاوض مع منظومات الدعم الإنساني، إلى الوقوف في طوابير الخبز، تمر المرأة بتجربة اقتصادية معقدة، تُلخّص ما يسميه عالم الاجتماع بول فيريليو بـ(اقتصاد الطوارئ)، حيث لا يقاس النجاح بالربح، بل بالبقاء.
المرأة النازحة في هذا السياق لا تقود من فوق، بل من الداخل. إنها تخلق نموذجاً لقيادة مجتمعية ناعمة، غير هرمية، تعتمد على الشبكات الأفقية، وعلى التحالفات داخل الحي، وعلى الإبداع اليومي: من المطبخ الجماعي إلى الحاضنة الصغيرة للأطفال، ومن بيع البهارات إلى تأسيس جمعية نسوية محلية في إحدى الخيام.
هنا، تتحول المرأة إلى وحدة إنتاج ورعاية وأمن، في آنٍ واحد. اقتصاد النزوح الذي تخلقه النساء ليس طارئاً، بل هو بديلٌ فعليٌ عن اقتصاد الدولة المنهارة. وإذا كانت الدولة في الحروب تنهار عند حدود السوق والمؤسسة، فإن المجتمع يعيد تكوين نفسه عند موقد الطعام، وماء الغسيل، وإبرة الخياطة. ولذلك يمكن القول إن النساء هنّ من حافظ على بقاء المجتمعات المتشظية من الانقراض، بصمتٍ وذكاءٍ وتضحياتٍ غير مرئية.
لكن مع هذه البطولات اليومية، تتكثف المآسي. النساء اللواتي أصبحن معيلات لأسرهن، وجدن أنفسهن أيضاً في مواجهة فراغٍ قانونيٍ قاتل. فالحماية القانونية في معسكرات النزوح تكاد تكون معدومة، والعنف الجنسي – الذي يتصاعد في زمن الحرب – لا يميز بين لاجئة وصاحبة بيت. هنا تتقاطع الأدوار: المرأة القائدة هي نفسها المرأة المُهددة، الجسد العامل هو الجسد المستباح. وتصبح المعضلة مزدوجة: كيف نحمي من يُحمينا؟ وكيف نصون الكرامة لمن تبني لنا الحياة من فتات الموت؟
في هذا المشهد، لا بد من الاعتراف بأن النساء لسن فقط طرفاً في معادلة “التمكين”، بل يجب أن يُنظر إليهن كمؤسسات قائمة بذاتها، كعقلٍ جمعيٍ خاض تجربة النزوح وقام بتحويلها من حالة انهيار إلى حالة بناء جديد. وإذا كان هناك من معنى لـ(الاقتصاد المقاوم)، فهو هذا الذي تبنيه النساء في صمت، بعيداً عن نظريات التنمية النخبوية، ودون انتظارٍ لبرامج التمويل الدولية التي غالباً ما تهدر الإمكانيات في تقارير أكثر مما تفعل في الميدان.
وهنا نستعيد عبارة الفيلسوفة النسوية إيفلين رييد: (حين تسقط البنى، لا يبقى سوى اليد التي تطبخ، والصدر الذي يرضع، والعقل الذي لا ييأس.) هذا هو مختصر ما تصنعه النساء في اقتصاد النزوح. ولذلك، فإن إعادة بناء ما بعد الحرب لا يمكن أن تتم إلا بالاعتراف بدور المرأة كفاعلة اقتصادية، لا فقط كمستفيدة من الإغاثة، وكمؤسسة اجتماعية لا فقط كعنصر هش.
في النهاية، الحرب لا تصنع أبطالها في البيانات، بل في خطوط النار الهادئة. والنساء، في اقتصاد النزوح، لسن بطلات في ملصقاتٍ إعلامية، بل في واقعٍ يعيد تعريف معنى البطولة: أن تنجو، أن تُطعم، أن تصون الأمل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.