اليوم العالمي للاجئين 20 يونيو 2025

بقلم: طارق عبداللطيف  ابوعكرمة

في يوم اللاجئ العالمي، لا نكتفي بتأبين الكارثة، بل نستدعي معنى الإنسان في زمنٍ تتفكك فيه الخرائط، وتتعرّى فيه الدولة، ويتآكل فيه الحق من فرط الاستخدام المزدوج. لا نقف اليوم أمام حدث طارئ، بل أمام سؤال فلسفي عميق: ما الذي يجعل الإنسان يُقتلع من أرضه، ويُلقى خارج الزمن، ليصبح كائنًا مؤقتًا في مخيم، وضيفًا غير مرغوب فيه على خرائط الآخرين؟

اللجوء ليس مجرّد حركة انتقالٍ قسري، بل انكشافٌ أخلاقي للمجتمعات والدول والنظام الدولي برمّته. إنه الصورة الأكثر فظاعة لفشل العمران السياسي في حماية أضعف حلقاته: الإنسان حين يكون أعزل من كل شيء، حتى من اسمه، وجنسيته، ومكانه في الذاكرة.

اللاجئ ليس متسللًا، بل مُساقٌ من وطنٍ لم يعد وطنًا، إلى مكان لا يعترف به كجزء من الجماعة. هو ليس مهاجرًا عاديًا، بل منفيٌّ من منظومة المعنى، ومرميٌّ في الهامش المادي والرمزي للعالم.

في سياقنا العربي، لا يبدو اللجوء حدثًا معزولًا أو طارئًا، بل يكاد يكون قدرًا مستمرًا منذ نكبة فلسطين إلى تهجير السوريين، وانفجار اليمن، وحريق ليبيا، ومأساة السودان. لقد باتت الخيمة، لا القصر، هي صورة الإنسان العربي. وباتت الحدود، لا الجسور، هي لغته السياسية.

ما الذي يجعل أوطانًا بأكملها تنتج هذا القدر من اللاجئين؟ إنها ليست فقط الحروب، بل ما قبل الحرب: العطب في العقد الاجتماعي، والاستبداد، واحتكار السلطة والثروة، وفقدان العدالة. الحرب هي القمة المرئية لجبل الجليد. أما اللجوء، فهو القاع العميق، حيث يتكسّر الإنسان في صمت.

اللاجئون لا يطلبون الشفقة، بل العدالة. لا يحتاجون صدقات، بل اعترافًا بأن العالم الذي صنع مأساتهم، مسؤول أيضًا عن إنصافهم. اللجوء، في جوهره، هو مأساة أخلاقية لنظامٍ عالميٍّ أدمن التعامل مع الكوارث كإحصاءات، لا كأرواح.

في هذا اليوم، نرفع الصوت باسم الذين لم يبقَ لهم صوت، باسم الذين أُجبروا على عبور البحار بلا ضوء، وعبور الحدود بلا لغة. باسم من دفنوا أبناءهم في الرمال، ومن عاشوا في خيام العبور لأعوام بلا نهاية.

ولذلك، فإننا لا نكتفي بالتضامن الرمزي. بل نطرح في مواجهة هذا العالم، رؤية إنسانية بديلة، تقوم على المبادئ الآتية:

أن الكرامة لا تُجزّأ، ولا تُؤجل، ولا تُشترى بجواز سفر.

أن الهوية ليست وثيقة رسمية، بل تاريخ من الانتماء والمساهمة والمعاناة.

أن اللاجئ ليس ضيفًا، بل شاهداً على انهيار المعنى، ومُذكّراً بأننا جميعًا قابلون لأن نصبح مثله في أي لحظة.

إننا في هذا اليوم لا نكتفي بأن نحزن، بل نغضب. لا لأننا ضعفاء، بل لأننا نؤمن بأن الغضب الأخلاقي هو الخطوة الأولى نحو إصلاح ما اختلّ.

وإذ نحيي اللاجئين في كل ركنٍ من هذا العالم—من غزة إلى دارفور، ومن الموصل إلى مخيم الزعتري، ومن الخرطوم إلى المنفى الأوروبي—نقول لهم: لستم وحدكم. أنتم المرآة التي نختبر بها إنسانيتنا، أنتم امتحاننا الحقيقي.

ولكل من قرر أن ينسى، أو يشيح بوجهه عن الألم، نقول: إن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما لا يقبل أن يراه يُهان.

ليكن هذا اليوم، لا يومًا للبكاء، بل لحظة وعي، وبداية عهد، نعيد فيه الاعتبار للمعذَّبين في الأرض، لا كأرقام، بل كأرواح كاملة، لها الحق في الأرض واللغة والوطن.

فاللاجئ ليس مشكلة سياسية فحسب، بل هو سؤال وجودي: من نحن إن كنا لا نستطيع أن نحمي أضعفنا؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.