
بقلم: زكريا نمر
ليس كل من يكتب رواية يُعتبر كاتبًا أدبيًا. فالرواية ليست مجرد قصة عابرة أو منتج يُستهلك وينسى بل هي بناء عاطفي وفكري وجمالي يعكس حاجة الإنسان إلى الفهم والاعتراف ورغبته في تخليد جزء من تجربته أو خياله في نص يمنحه حياة جديدة. تنشأ الرواية الأدبية عندما يلتقي الشغف باللغة مع العمق الإنساني حيث تصبح القصة مرآة تعكس حياة أوسع وصوتًا أعمق من الكلمات العابرة.
هذا الكتاب ليس مجرد دليل تقني ولا دعوة لاتباع وصفات جاهزة بل هو رفيق فكري ونفسي للكاتب الذي يسعى لاكتشاف صوته ولغته وطريقته في السرد ليس من أجل السوق أو الشهرة بل ليترك بصمته الخاصة على هذا الفن الرفيع. الكاتب الأدبي لا يبدأ من الخارج بل من أعماق ذاته. يكتب لأنه لا يستطيع التوقف عن الكتابة لأنه مشدود إلى لحظة لم يفهمها بعد أو صورة عالقة في ذاكرته أو جرح لم يندمل في قلبه. وهنا تبدأ الرواية ليس من حيلة درامية أو حدث مثير بل من تواصل عميق بين الذات والعالم.
الكتابة الأدبية تتجاوز مجرد سرد الأحداث إذ تسعى لاستكشاف كيفية حدوثها وأسبابها وما تعنيه للأشخاص الذين عاشوها وللقارئ نفسه. ليس كافيًا أن تصف الألم بل يجب أن تجعله ملموسًا. كما أن ذكر الخوف وحده لا يكفي بل ينبغي أن تسمح له بالتسلل إلى قلب القارئ. هنا تتحول اللغة إلى أكثر من مجرد أداة لتصبح كائنًا حيًا ينبض بالتوتر والإيحاء وأحيانًا بالغموض. الكلمات في الرواية الأدبية لا تُختار بشكل عشوائي بل تُشكل بعناية كما تُنحت المنحوتات من الحجر. وقد تكون اللغة هي العنصر الذي يميز الكاتب الأدبي عن غيره ليس فقط من حيث فصاحتها بل من قدرتها على نقل المشاعر والأفكار والانفعالات بأدق تفاصيلها.
أما الشخصيات فهي ليست مجرد أسماء تؤدي أدوارًا درامية بل هي أرواح مستقلة تعيش حياة داخل النص ولها تاريخ غير مكتوب خارج السطور. الرواية الأدبية لا تتعامل مع الشخصية كوظيفة بل ككائن له دوافعه وتناقضاته وأحلامه وانكساراته. ومن خلال هذه الشخصيات لا يروي الكاتب العالم فحسب بل يعيد التفكير فيه ويفكك عناصره ويطرح تساؤلات جديدة حوله.
البنية السردية في الرواية الأدبية لا تسير بالضرورة على نمط خطي تقليدي. هناك دائمًا رغبة في كسر الزمن في إعادة ترتيبه في اللعب بين الماضي والحاضر بين الواقعي والحلمي بين الحقيقة والاحتمال. الرواية الأدبية تحاول أن تقبض على الزمن لا بوصفه ساعة تمشي بل بوصفه شعورًا داخليًا لحظة تعلق أو انكسار أو دهشة. لا يهم من أين تبدأ الحكاية بقدر ما يهم كيف تبدأ وكيف تفتح للقارئ أبوابًا غير متوقعة ومسارات لا تختصر بجملة أو مشهد.
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الرواية الأدبية لا تخشى الغموض ولا تتجنب طرح الأسئلة الكبيرة. بل إنها قد تنشأ أحيانًا من سؤال لم يجب عليه أحد أو من فكرة غامضة تسعى لتجربة الحياة في إطار روائي. فالرواية ليست مجرد وسيلة للهروب من الواقع بل هي أداة لفهمه أو للنجاة منه أو لمساءلته. ولهذا غالبًا ما تكون محملة بطبقات من الرموز والدلالات والمعاني التي لا تعبر عنها بشكل مباشر بل تُترك لتُكتشف.
ومع ذلك لا تكتمل الكتابة في المسودة الأولى. الرواية الحقيقية تبدأ عندما يعيد الكاتب النظر فيما كتب فيقوم بالحذف والتعديل والصقل تمامًا كما يُصقل الحجر الكريم من الشوائب. فالمراجعة ليست ترفًا بل هي جزء أساسي من العملية الإبداعية. كما أن الجمال لا يظهر كاملًا منذ اللحظة الأولى فإن الرواية الأدبية لا تُكتب من السطر الأول بل تتشكل من عشرات المحاولات التي لا يراها القارئ لكنها تُسهم في خلق الرواية التي يستمتع بقراءتها.
الكتابة الأدبية للرواية تمثل رحلة طويلة قد تكون شاقة في بعض الأحيان لكنها تحمل في طياتها متعة عميقة. فهي ليست مجرد محاولة لسرد قصة بل هي وسيلة لفهم الذات والعالم من حولنا. إنها تعبير خفي عن المشاعر وصراع مع الصمت وسعي للعثور على المعنى في عالم يميل إلى السطحية والسرعة والنسيان. الكاتب الأدبي لا يكتب فقط لإمتاع القارئ بل لأنه يشعر بأنه مضطر للكتابة مؤمنًا بأن الكتابة تمثل نوعًا من الخلاص والنجاة والعزاء.
عند فتحك لهذا الكتاب لا تبحث عن قواعد جاهزة بل استعد لاكتساب وعي جديد بالكتابة ولتطوير أدوات تصقل موهبتك ولتلقي إشارات توجهك في مسيرتك دون أن تسيرها بدلا منك. هذا الكتاب لا يعدك بالنجاح لكنه يقدم لك شيئًا أعمق رؤية للكتابة كفن وكمسؤولية وكمغامرة. مرحبا بك في هذه الرحلة التي لا تقودك فقط إلى كتابة رواية بل إلى كتابة نفسك أيضًا.
Leave a Reply