
بقلم: د. أحمد بابكر
خلفية
انتقلت وأنا ابن ثلاثة أشهر من قريتي حليوة في الجزيرة إلى مدينة الأبيض بكردفان الكبرى حيث يعمل الوالد كمعلم في المدرسة الثانوية والوالدة معلمة في المرحلة الابتدائية. وبحكم أني كنت طفلًا كثير الحركة فقد انغمست في جو الأبيض الكردفاني الجميل وبحكم سنوات الطفولة تأثرت بشكل كامل بمحيطي حتى لهجتي كانت كردفانية قحة فأنا لم أكن أعرف أن هناك كلمتين مختلفتين للبيع والشراء فكنت أذهب الدكان عشان “نبيعو أي حاجة ونجو راجعين”.
في تلك الفترة ونحن أطفال تربينا على سماع بلبل الغرب عبدالرحمن عبدالله وعبدالقادر سالم حيث كانا دائمًا حضورًا في حفلات آخر العام في المدرسة الصناعية في الأبيض وكنت كذلك مولعًا بالذهاب لميدان الخطوة وهو ميدان شهير في الأبيض كانت تقام فيه يوم الاثنين من كل أسبوع على ما أذكر حلقات اللعب. فكنا نسمع النقارة والمردوم وكنا نتسرب بين الناس ونرفص رقصًا طفوليًا لكنه يعبر عن علاقتنا الأصيلة بهذه الفنون. وكنت حضورًا في دار الرياضة في الأبيض مع الوالد في أغلب المباريات التي يكون طرفها الهلال والمريخ والموردة والأهلي حيث كان الوالد مريخابيًا وأنا هلالابيًا وكنت أذهب معه لسينما عروس الرمال ومطعم جروبي والرحلات في البان جديد.
رجعت للجزيرة وأنا ابن 9 سنوات وكان الأهل في القرية يطلقون علي لقب غرباوي نسبة لأن الأبيض كانت عندهم الغرب وما زال الجميع ينادوني بهذا اللقب المحبب. وأنا صغير كان أهلي في القرية يطلبون مني غناء أغنية “شقيش” للراحل عبدالرحمن عبدالله وبكل الفرح الطفولي كنت سعيدًا وأنا أغنيها بلهجتي الكردفانية الغريبة عنهم فكانوا يضحكون وحسب طفولتي تخيلت أنه إعجاب بقدراتي الغنائية ولكنه كان ضحكًا على لهجتي الغريبة عنهم وهكذا هو حال القرى زمان حيث تكون القرية هي عالمهم وكونهم الذي يعرفونه وكل ما عداه فهو غريب.
نشأت وأنا مشبع ومحب وعاشق للفن الكردفاني فأنا أعشق المردوم والجراري وكل ضروب الفن في كردفان.
ما جعلني أكتب هذه الخلفية أني إلى الآن في ساعات الضيق أهرب لسماع أي شيء له علاقة بكردفان. اليوم شبكت معاي أسمع أي حاجة وأنا من المعجبين بصوت وتقنية المطربة شذى عبدالله بنت القضارف. ورغم أنها ليست من كردفان فقد سمعت لها “شقيش” و”أم كحيل” وكان الأداء قمة في التطريب والحرفية العالية.
تخيلت نفسي في حفل في قريتي الصغيرة حليوة ومعنا الأستاذة شذى عبدالله وقد شدت لنا بإيقاع المردوم والجراري وكل إيقاعات غربنا الحبيب. حاولت تخيل ردة فعل الأهل بحليوة وقد ارتبطت عندهم سيرة أهلنا في الغرب في هذه الحرب بـ “الدعامة” وما فعلوه بهم من قتل وتنكيل وتنزيع وهدار للكرامة والخ. فكنت أتساءل: هل سيتقبلون أن نرقص المردوم ونغني الجراري كما كانوا يفعلون في السابق؟ أم هل تأثرت الذائقة الفنية بالحرب وأصبحت الذائقة تحب وتكره حسب الضرر الذي حدث لهم في الحرب لأنهم وبكل بساطة وللأسف الشديد يربطون ما حدث لهم بمواطن هذه المناطق.
رؤى وانعكاسات
رغم أني لا أتفق مع هذه الرؤية وبذلت الكثير لمحاربتها وما زلت في إطار رفضي للحرب باعتبار أن هذه الحرب ستصنع جدرانًا إسمنتية مليئة بالكراهية بين المجتمعات السودانية.
خاصة أن هناك من اجتهد في تسعير هذه النعرات لتزييف الواقع لجعله صراعًا بين مكونات الوطنية السودانية كبديل للصراع الأساسي بين قوى الثورة والتغيير والديمقراطية ضد قوى الاستبداد والردة والرجعية.
على عاتقنا عمل كبير وشاق لمحاربة خطاب الكراهية وأول طوبة في هذا الأساس هو العمل على إيقاف الحرب لأن الحروب هي النفاذ الذي يتسرب منه خطاب الكراهية وتسعير الصراعات القبلية والمجتمعية لفائدة مجموعات صغيرة تستثمر فيها لمصلحتها الذاتية.
أنا من الجزيرة لكن بحب كردفان وأعشق المردوم والجراري لأني نشأت في ظلهم ومحبتهم. لن تسلبنا هذه الحرب إنسانيتنا مهما حدث ومهما كانت الخسائر.
كسرة
قبل الحرب بفترة طويلة وعندما بدأت الميديا في التعريف بكل الثقافات كان في ذهني مشروع يستند على أن الأغنية الأمدرمانية قد اختنقت ويجب أن يكون هناك نسق يعمل على تغذية هذه الأغنية بإيقاعات جديدة خاصة إيقاعات أهلنا في غرب السودان. وكنت متابعًا لزولو وإبداعات الفاتح حسين وكذلك الأسطورة محمود عبدالعزيز في تغذية الوجدان السوداني وكذلك الأغنية الأمدرمانية السائدة بحبل سري جديد يربطها بكل التنوع الإيقاعي في السودان. رغم أن الأغنية الأمدرمانية نفسها هي نتاج تفاعل الثقافات التي قدمت لأم درمان بعد الثورة المهدية ولكن في اعتقادي أنها قد اختنقت ووصلت أقصى ما تستطيع وبالتالي يجب تغذيتها من كل شرايين البلاد الإيقاعية والثقافية.
تحياتي 11 يونيو 2025م
Leave a Reply