شال النوار: حين يتلفح الحنين بعباءة الورد المنتظر

بقلم: أمجد أحمد السيد

في خريطة الغناء السوداني الحديث تحتل أغنية “شال النوار” مقامًا لا يقتصر على الطرب فحسب بل يتعداه إلى مقام الشهادة الجمالية على زمن بكامل رهافته: زمن الكلمة المنتقاة كزهرة واللحن المختزل كرامة العشق والصوت الذي لا يغني بل يبشر. فقد وُلدت هذه الأغنية في سبعينيات القرن الماضي حيث كانت الإذاعة السودانية تمثل ذاكرة الصوت الجماعي وكان الشعر الغنائي يشهد تحولًا فارقًا مع جيل إسحق الحلنقي ومحجوب شريف ومحمد المهدي المجذوب وغيرهم ممن ابتكروا لغة وسطى بين العامية والفصحى تتوسل بالرمز وتتكئ على الصورة الوجدانية المشبعة بالمجاز.

“شال النوار” ليست ابنة مصادفة بل بنت بيئة شعرية وثقافية كانت تمجد الانتظار لا كتقليد عاطفي بل كقيمة إنسانية مضمخة بالصبر والوفاء. ففي تلك الفترة لم يكن الحب حدثًا عابرًا أو تواصلاً فوريًا بل كان طقسًا اجتماعيًا وأخلاقيًا يحرسه الحياء وتشكله الرسائل المكتوبة واللقاءات المحدودة والصوت الرخيم الذي يوقظ فيك شجرة القلب كلما غنى محمد الأمين.

ووسط هذا المناخ جاءت كلمات إسحق الحلنقي كإعادة صياغة للحب في هيئة نبوءة مكسورة. شال من النوار رمزية الجمال لكنه يخفي خيبة تشبه نهاية الوعد عند مفترق الدرب. إنها الأغنية التي لا تصرخ بل تنزف بهدوء وتحول الذكرى إلى لحن والخذلان إلى أدب نقي:

“يا ريت من أول وريتنا إنك يمكن تتأخر يوم”

بداية الأغنية عتاب خفيف أقرب للرجاء: “لو بس كنت قلت لينا كنا حضرنا قلوبنا لانتظارك ما كنا ضيعنا نجوم الليل ولا طولنا سهرتنا على أملك.” وفي الجملة الثانية يضوي الليل ذاته كشاهد على وجع الانتظار:

“وبحرك يا ليل ما طفينا نجومه”

ليست هذه مجرد صورة شعرية بل وجع يتنفس في شكل استعارة. الليل دا بكل نجماته كان صحبة الأحباب المنتظرين والنجوم ظلت منورة كأنها مرابطين مع الحزانى.

ولما يقول:

“بيقول الغايب عزره معاه وفى غيابك ياما نشيل اللوم”

هنا الرهافة تبلغ أقصاها لأن العاشق حتى في وجعه يدي حبيبه العذر بيقول “ما في مشكلة يمكن عندك سبب لكن شوف نحنا نحنا الوجعانين بنشيل اللوم عنك”.

والألم يتسلل في وصف الزمن:

“مرت لحظات وكمان ساعات طالت وحياتك منتظرين”

الانتظار هنا ما عادي الزمن ذاته بقى ثقل وكل لحظة طال بها الغياب كأنها سنة.

ويبلغ التصوير قمته في:

“لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الشوق قبل العينين”

يا سلام أي زول عاش الحب الحقيقي بيعرف اللحظة دي لمن تسمع صوت في الباب والقلب يركض قبل عينيك طمعان يشوف الزين الغايب.

والشارع البنعول عليه في اللقاء بقى مليان دمع:

“نعاين الشارع نلقاه عايم بدموع المغلوبين”

مشهد بصري وقلباني في ذات الوقت الشارع مغسول بالدموع كأنه المدينة كلها بتبكي على الزول البخل بجيته.

ويمشي العيد ويجي والناس تتلاقى لكن هو ما جاء:

“العيد الجاب الناس لينا ما جابك يعني نسيتنا خلاص”

سؤال مؤلم لأنه يجي في لحظة مفروض تكون فرح لكن بقيت لحظة عزلة.

ويجي الاعتراف الأكبر:

“مع إنك إنت الخليتنا نعيش الحب ذكرى وإخلاص”

مؤلم. الزول الكان سبب الحب بقى ذاته سبب الوجع.

وتنتهي الأغنية ببيت يكاد يكون مرثية لذكرى وعد لم يتحقق:

“شال النوار ظلل بيتنا من بهجة وعدتك وما جيتنا”

البيت المظلل بشال النوار بقى خالي. البهجة اتحولت انتظار. والوعد بقى ذكرى. والشوق بقى وجع يومي.

أغنية “شال النوار” ما بس تجسد تجربة حب عادي هي مرآة للحساسية السودانية العالية تجاه الارتباط والوفاء والانتظار. فيها الشاعر ما بيصرخ ولا بيبكي ولا بيشتكي بل بينزف كلمات فيها جمال الهدوء ووجع الصبر.

هي حكاية جيل كان الحب عنده صدق ما واتساب وكان الوجع فيه نبل مش شكاية.

ولسه بنقول مع كل استماع جديد:

“وحاتك منتظرين شوف وين روحتنا وديتنا”

(إن “شال النوار” ليست فقط أغنية عن الغياب بل درس سوداني في أن الحب الحقيقي يؤمن بالوعد حتى حين يكسره الزمن.)

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.