بت المنى- ما قلنا ليك

بقلم: أ.د. أمير محمد حسين
في حوشٍ فسيح، حيث البيوت الطينية تتلاصق كأنها تتهامس بأسرار لا يفشيها إلا صمت الأزقة، وحيث أشجار النيم العتيقة تفرد ظلالها الوارفة على فيراندات أنهكها الزمن، استلقت الشَّفَة بت حاج حمزة على “عنقريبٍ” ذو حبال متآكلة، تلوّح بمروحة من سعف النخيل، تصفق بها الهواء في محاولةٍ يائسة لصدّ حرٍّ لا يعرف الرحمة.

كان الهواء ساكنًا، إلا من همسات النيم المتراقصة في النسيم، وصوت المروحة وهي تحتك بخشونة بين أصابع الشَّفَة، تصدر أزيزًا خافتًا يتلاشى في وهج القيظ.

مقابلها، تمدّدت بت المنى بت بابكر على عنقريبٍ مماثل، متكاسلة تحت “توب الزراق” الباهت، يخفي تحته جلابية مهترئة، تشهد بصمتٍ على معارك خيضت بلا انتصار. بين الحين والآخر، كانت ترفع يدها وتمسح عرقًا تجمّع على جبينها، ثم تعود إلى وضعها المستسلم.

بحركةٍ رشيقة من مروحتها، أومأت الشَّفَة ودعت بصوتٍ يحمل نغمة النداءات القروية العتيقة:

“يا بت المنى، ما تجي نمشي السوق قبل ما الزحمة تعكّر المزاج؟”

كمن يستفيق من حلمٍ بعيد، رفعت بت المنى رأسها ببطء، تمتص الكلمات قبل أن تردّ بسخريةٍ متأففة:

“شنو؟ نمشي نحفر الساقية؟ يا بت حاج حمزة، مالك دايرة تورطينا في الجروف؟”

أطلقت الشَّفَة زفرة طويلة ورفعت عينيها نحو السماء، وكأنها تستنجد برحمةٍ غيبية، بينما حرّكت المروحة بقوةٍ أكبر، فصدر عنها صوتٌ متقطّع كأنه احتجاجٌ صامت على حرارة الطقس والحديث معًا.

“السوق، يا ولية! قلت السوق! نجيب العيش والخضار قبل ما الشمس تولّع فينا.”

ارتسمت على ملامح بت المنى تعابير حزنٍ مفتعل، وأطبقت جفنيها كأنها تحمل همّ الدنيا فوق كتفيها:

“آي، والله، الدكتور قال لي ما أتحرّك كتير… قلبي ضعيف.”

بغضبٍ ممزوجٍ باليأس، ضربت الشَّفَة العنقريب بكفّها، فاهتزت الحبال العتيقة تحتها، محاولةً استدعاء منطقٍ غاب عن الحوار:

“قلبك ضعيف؟ قبل شوية كنتِ بتجري ورا الجدادة في الحوش!”

تنحنحت بت المنى، ومرّرت إصبعها على أذنها بلا اكتراث، كمن يلهي نفسه عن مواجهة الحقيقة، ثم أمالت رأسها قليلًا كأنها تصغي إلى شيءٍ بعيد:

“قلتي شنو؟ عايزاني أشتري جدادة؟!”

وضعت الشَّفَة يدها على جبينها في يأس، وكأنها تود أن تطرق رأسها بالحائط، ثم مسحت جبينها بطرف مروحتها وكأنها تجفّف عرقًا لم يكن سببه الحرّ وحده.

“جدادة شنو يا زولة؟ قلت لك بصل وطماطم وعيش!”

وكأنها تلقت صاعقة، شهقت بت المنى وضربت صدرها بتمثيلٍ درامي بارع، ثم مالت إلى الخلف، مستندةً على العنقريب وكأنها أوشكت على الإغماء:

“الديش؟! نحن في العمر دا وعايزانا نخش الديش؟ لا، لا، يا بت حاج حمزة، ما بندخل في المتاهات دي!”

بإصرار، لوّحت الشَّفَة بمروحتها بعنف، فكادت الرياح، التي صنعتها أن تطيح بطرحة بت المنى المرتخية، وكأنها تحاول أن تبعد ليس فقط حرارة الجو، بل أيضًا سخافة الحديث المتفاقمة:

“عيشك! رغيفك! الخبز يا زولة!”

عقدت بت المنى يديها في حجرها، وأمالت رأسها بوقار، كأنما أُوحي إليها بحكمةٍ عظيمة، ثم حرّكت يدها ببطء كما لو أنها تسطّر على الهواء كلامًا مقدّسًا:

“آي، كنت عارفة… كنت حاسة إنك دايرة تخليني خدامة، عايزاني أخبز ليك!”

شهقت الشَّفَة ورفعت يديها إلى السماء قبل أن تسقطهما باستسلامٍ مهيب، ثم نظرت إلى بت المنى وكأنها تقيّم ما إذا كان هذا الموقف يستحق مزيدًا من الجهد، أو أنه مجرد خسارة معركة في حربٍ طويلة الأمد.

“يا بت المنى، إنتِ ما بتسمعي؟!”

ابتسمت بت المنى بمكرٍ بريء وهي تعدّل ثوبها ببطء، ثم شبكت يديها وراء رأسها في ارتياح المنتصر:

“والله بسمع، لكن مرات… ما بحب أفهم!”

نظرت إليها الشَّفَة طويلًا، أخذت نفسًا عميقًا، ثم وضعت مروحتها جانبًا. ألقت ببصرها إلى الدجاجة التي كانت “تقدل” في الحوش، وكأنها تستمع إلى الحوار بأذنيها الصغيرتين، بل ربما تفهمه أكثر من صاحبتها.

ثم، وبنبرةٍ تحمل نصف تهديد ونصف استسلام، قالت:

“خلاص، كفاية عليكِ اليوم… لكن باكر، ما عندك مهرب.”

استندت بت المنى إلى العنقريب براحة المنتصر، وابتسمت ابتسامةً ملغّزة، قبل أن تهمس لنفسها، بينما تلعب بأطراف طرحتها في لا مبالاة محسوبة:

“باكر؟ يا في البعير، يا في الأمير، يا في العبد الفقير!”

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.