
بقلم: د. أحمد الليثي
في إحدى أكثر اللحظات حساسية في تاريخ الدعوة الإسلامية، تجلّت عظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا في الانتصار العسكري، بل في الانتصار الأخلاقي والسياسي. كان ذلك في صلح الحديبية، حين جلس النبي ليكتب اتفاقًا مع قريش، تمهيدًا لوقف الحرب والدخول في مرحلة جديدة من التعايش المرحلي.
أرسلَت قريش مبعوثها سهيل بن عمرو، رجلها الفصيح والمحنّك، فقالوا: “إذا جاء سهيل، فقد سهل الأمر”.
لكن السهولة لم تكن دون ثمن ظاهر.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يملي: “اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم”،
فقال سهيل معترضًا: “أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب”.
ابتسم النبي الكريم، وقبل، وقال لعلي بن أبي طالب:
“اكتب: باسمك اللهم”.
ثم قال: “هذا ما صالح عليه محمد رسول الله”..
فقال سهيل: “لو كنا نؤمن أنك رسول الله، ما قاتلناك ولا صدَدْناك عن البيت. بل اكتب: محمد بن عبد الله.”
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بثقة عظيمة: “والله، إني لرسول الله وإن كذّبتموني.”
ثم التفت إلى علي وقال: “أمحها يا علي.”
لكن عليًا، وقد ضاق صدره من مرارة التنازل، قال: “لا، والله لا أمحوها أبداً.”
فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ومحاها بنفسه.
في ظاهر الأمر، يبدو التنازل كبيرًا، لكن في جوهره كان انتصارًا استراتيجيًا وأخلاقيًا بامتياز. لقد اختار النبي أن يتنازل عن اللفظ لا عن الرسالة، عن الشكل لا عن الجوهر، لأنه كان يرى ما لا يراه الحاضرون: أن هذه الهدنة ستكون بوابة الفتح الأعظم، وأن النصر لا يُقاس بالكلمات المكتوبة، بل بما تكتبه الأيام من نتائج.
ولأن المعنى لا يُمحى بممحاة، فقد أسلم سهيل بن عمرو بعد فتح مكة، وأصبح من خطباء الإسلام، حتى قال عنه عمر بن الخطاب:
“والله، إن لسان سهيل بن عمرو خير من سيوف كثيرة”.
لقد كانت “أمحها يا علي” درسًا خالدًا في التواضع، وفي الذكاء القيادي، الذي يفرق بين المعركة والهدف، وبين الكرامة والغرور، وبين النص والمقصد.
إنها لحظة تلخّص منهجًا نبوياً عظيمًا: أن تعرف متى تصمت دون أن تُهزم، ومتى تتنازل دون أن تضعف، ومتى تمحو… لتكتب التاريخ من جديد.
Leave a Reply