
جنيف: محمد المكي أحمد
كشفت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، في تقريرٍ صادمٍ قُدّم الثلاثاء، 17 يونيو 2025، عن تفاصيل مروّعة لواقع الحرب الأهلية التي تلتهم البلاد. التقرير، الذي عُرض أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، لم يحذر فقط من تصاعد حدة النزاع، بل دعا صراحة إلى حظر فوري للأسلحة ومحاسبة شاملة لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
البعثة وثّقت بشكل قاطع تصعيدًا خطيرًا في استخدام الأسلحة الثقيلة ضد المدنيين، فضلاً عن ارتفاع غير مسبوق في حالات العنف الجنسي والنوعي. كما أشارت إلى أن المساعدات الإنسانية تُحوّل إلى أداة حرب، وأن المرافق الطبية تتعرض لحصار منهجي.
دوامة العنف.. “النزاع لا يقترب من نهايته”
“لنكن واضحين: النزاع في السودان لم يقترب من نهايته بعد،” هكذا صرّح رئيس بعثة تقصي الحقائق، محمد شاندي عثمان، مشددًا على أن حجم المعاناة الإنسانية يتفاقم باستمرار. وحمّل عثمان مسؤولية تفاقم الأزمة إلى “تفكك الحكم، وعسكرة المجتمع، والتدخلات الأجنبية”، واصفاً هذه العوامل بـ”وقود أزمة تزداد دموية يومًا بعد يوم”.
وتُذكّر الأمم المتحدة بأن الحرب، التي اندلعت في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أودت بحياة الآلاف وشردت 13 مليون سوداني، معرضة إياهم لأبشع أشكال العنف والنهب وتدمير شامل لمنازلهم ومستشفياتهم وأسواقهم.
جرائم بحق الإنسانية: بصمات لا تُمحى
“ما بدأ كأزمة سياسية وأمنية، تحوّل اليوم إلى حالة طوارئ كارثية على مستوى حقوق الإنسان والحماية،” هكذا وصفت عضوة البعثة، منى رشماوي، الوضع، مؤكدة أن النزاع قد “شمل ارتكاب جرائم دولية تلطخ سمعة جميع المتورطين فيها“. وأعربت رشماوي عن أسفها لدخول هذه الحرب المدمّرة عامها الثالث دون بصيص أمل بانتهاء وشيك، مؤكدة أن المدنيين وحدهم يتحملون العبء الأكبر من العنف المتصاعد.
رغم الحظر: البعثة تواصل توثيق الجناة وتتعاون سراً مع جهات قضائية
في تحدٍ واضح لرفض السودان دخولها، كشفت البعثة الدولية عن جهودها المضنية لتوثيق الانتهاكات. فمنذ تقريرها الأخير، أجرت 240 مقابلة، وتلقت 110 إجابات مكتوبة، وتحققت من صحة 30 مقطع فيديو، محددّة مواقع ثماني هجمات بدقة. وأكدت البعثة أنها تقوم حاليًا بجمع ملفات تحدد هوية جناة محتملين، وقد بدأت بالفعل تعاونًا سريًا مع هيئات قضائية معنية.
وعلى الرغم من المحدودية، فقد أجرت البعثة تحقيقاتها من أوغندا وتشاد، وعقدت لقاءات رفيعة المستوى مع مسؤولي الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا.
التقرير بيّن أن طرفي النزاع صعدا من استخدام الأسلحة الثقيلة في المناطق المدنية، ففي محيط الفاشر، تعرض المدنيون للاعتداء والاحتجاز والقتل. كما شنت قوات الدعم السريع هجمات على قرى، تضمنت الحرق والنهب. في هجوم واحد بين 10 و13 أبريل، قُتل أكثر من 100 مدني، بينما أدى قصف آخر للدعم السريع على الكومة إلى مقتل 15 مدنيًا.
أعمال انتقامية واغتصاب منهجي.. تفاصيل مروعة
وثّقت البعثة أعمال عنف انتقامية واسعة النطاق نفذها كل من الجيش والدعم السريع بين أواخر 2024 ومنتصف 2025. في مناطق مثل الخرطوم والجزيرة وسنار، حيث استعادت القوات المسلحة السيطرة، تعرض أفراد يُشتبه بدعمهم لقوات الدعم السريع – بينهم مدافعون عن حقوق الإنسان وعاملون طبيون وموظفو إغاثة – لاعتقال تعسفي، تعذيب، وفي بعض الحالات، إعدام. بالمقابل، نفذت قوات الدعم السريع أيضًا هجمات انتقامية، أبرزها مقتل 30 مدنيًا في حي الصالحة بأم درمان يوم 27 أبريل.
التقرير فصّل كيف استُخدمت المساعدات الإنسانية كسلاح، حيث فرض الجيش قيودًا بيروقراطية، بينما نهبت قوات الدعم السريع القوافل ومنعت وصول الإغاثة تمامًا. هذه الأفعال تدفع البلاد نحو مجاعة وشيكة، خاصة في دارفور. وفي حادثة مأساوية في 2 يونيو، قُصفت قافلة أممية في الكومة كانت متجهة إلى الفاشر، مما أسفر عن مقتل خمسة من موظفيها. كما تعرض المستشفى السعودي في الفاشر لعشرات القذائف من قوات الدعم السريع، وفي مايو 2025، أدى قصف بطائرة مسيرة تابعة للدعم السريع على مستشفى الأبيض الدولي إلى مقتل ستة مدنيين وإغلاق آخر عيادة عاملة بالمنطقة.
الأكثر إثارة للقلق هو ما كشفته البعثة عن ارتفاع حاد ومخيف في العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي. تتعرض النساء والفتيات للاغتصاب، الاغتصاب الجماعي، الخطف، العبودية الجنسية، والزواج القسري، معظمها في مخيمات النازحين الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.
المساءلة.. ضرورة للسلام الدائم
في ختام التقرير، شددت خبيرة البعثة، جوي نغوزي إزييلو، على أن “المساءلة ليست ترفًا؛ بل هي شرط أساسي لتحقيق سلام مستدام، إذ إن غيابها يغذي النزاع. يجب أن تكون العدالة في صميم أي اتفاق سلام لمعالجة غياب المحاسبة، الذي يُعد أحد الأسباب الجذرية للنزاع في السودان.”
Leave a Reply