
بقلم: أ. ضياء الشمري#
إن التصعيد العسكري الذي يخيم على الساحة الإقليمية، بعد إقدام “إسرائيل” على تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد أهداف عسكرية ومراكز بحث علمي ونووي، وقادة عسكريين من الصف الأول والثاني وعلماء ذرة، وردٍ إيراني بصليات صاروخية ومُسيرات، كان متوقعاً منذ بدأ النظام الإيراني يخرج عن ضوابط الانتظام الذي رُسِمَ لدوره في قلب الوطن العربي من خلال نغوله (جمع نغل ابن حرام) في العديد من الأقطار العربية، وممارسة كل أشكال التخريب البنيوي في المجتمع العربي عبر تفكيك البنى الوطنية، في الساحات التي أعْمل فيها معاوله الهدامة لتجويفه وإضعاف عناصر مناعته؛ محققاً ما عجز العدو “الإسرائيلي” عن تحقيقه من تفتيت وتغيير ديموغرافي في استهداف واضح الأبعاد لضرب الهوية الوطنية للأقطار التي مارس فيها النظام الإيراني كل أشكال الموبقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد ظن نظام الملالي أن تغوله في العمق العربي برعاية أميركية وبغض نظر “إسرائيلي”، سيجعل منه شريكاً مضارباً في تقاسم النفوذ مع الحلف الصهيو-أميركي، متغافلاً أو متجاهلاً أن هذا الحلف عمد إلى الاستثمار به لضرب مرتكزات الأمن القومي العربي، وكلهم استثمروا في واقع الضعف والوهن العربيين، بعد الانكشاف القومي الذي كانت تداعياته شديدة الوطأة على الأمن القومي بعد حصار العراق والعدوان عليه واحتلاله وإسقاط نظامه الوطني.
ولولا هذا الانكشاف الذي ساهمت في تحقيقه كل القوى التي تآمرت على العراق، وائتلفت في حلف غير مقدس ضده، لما كانت الأجواء والمياه والأرض العربية مستباحة لتبادل الرسائل بالنار بين حلفاء الأمس بدءاً من “إيران-غيت” ووصولاً إلى خصوم اليوم الذين يوّحد بينهم موقف العداء للعروبة، فيما يفرقهما التنافس على حجم الحصص والصراع على النفوذ وكله على حساب الأمة العربية ومصالحها الحيوية.
إننا من موقعنا القومي الذي يحكمه قانون العداء المطلق للمشروع “الإسرائيلي”، بكل تجسيداته وشخوصاته، كنا وما زلنا وسنبقى نعتبر أن الصراع معه هو صراع وجودي، وكل صراع مع من يناصب الأمة العداء من خلفيات أخرى يبقى دون هذا التناقض حتى ولو كان تناقضاً عدائياً.
وهذا ينطبق على النظام الإيراني الذي وضع نفسه في خانة أعداء الأمة… عندما قدّم نفسه صاحب مشروع توسعي لم يخفِ أطماعه يوم اعتبر تغوله بمثابة سيطرة على أربعة عواصم عربية، والإعلان صراحة وليس مواربة بأن بغداد ستعود عاصمة تاريخية للإمبراطورية الفارسية.
وإذا كانت إيران تتعرض لهذا الحجم من القصف “الإسرائيلي” التدميري لمرافقها، والقتل لقيادييها العسكريين وعلماء الذرة فيها، فإن من أوصل الأوضاع إلى هذا المستوى من الانكشاف الذي مكن “إسرائيل” من النيل منها، هو الطريقة التي قدّم فيها النظام الإيراني لنفسه، منذ حصول التغيير في إيران وإمساك الملالي بناصية الحكم فيها.
- فلو كانت إيران استجابت للدعوات العربية وأولها من العراق، لنسج علاقات حسن جوار تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض،
- ولو كان النظام الإيراني لم يستمرئ التسهيلات الأميركية، لتمكينه من العراق بعد انسحاب القوات الأميركية تحت ضغط المقاومة الوطنية،
- ولو كان العراق بقي بكامل قوته وقدراته العسكرية والاقتصادية والتعبوية، هل كانت “إسرائيل” مهما بلغت قدراتها العسكرية، أن تستبيح سماء إيران وتضرب في عمقها؟ بطبيعة الحال لم يكن ليحصل ذلك. ولهذا فإن إيران كما غيرها من الذين تآمروا على العراق، يدفعون اليوم فواتير متأخرة، وهم الذين لم يتعظوا من حكمة أنهم “أُكلوا يوم أُكل الثور الأبيض”.
إن الكيان المحتل إذا كان يتخذ من عدم تمكين إيران امتلاك سلاح نووي ذريعة لإعلان الحرب عليها، فليس لأنه يخشى امتلاك نظامها سلاحاً نووياً، بل خشيته دخول المنطقة سباق تسلح نووي، وإدراكه أنه في اليوم التالي الذي تمتلك فيه إيران قنبلة ذرية، فإن العرب سيسيرون هذا الطريق.
وهذا الذي لم يخفِه قادة العدو بالقول:
أن “إسرائيل” تبادر إلى شن حرب، إذا ما امتلك العرب سلاحاً نووياً. ألم تبادر إلى قصف مفاعل تموز في العراق يوم عجز النظام الإيراني عن ذلك إبان الحرب في عام 1981؟
إننا نعي جيداً أن فلسطين ما كانت يوماً قضية قومية للشعوب الإيرانية حيثما ينطبق التوصيف، بعكس ما هي عليه بالنسبة للأمة العربية، بل هي دخلت على خط القضية الفلسطينية لأجل الاستثمار السياسي فيها، ولأجل هذا الاستثمار عمدت إلى الاستثمار بتشكيلات عسكرية وميليشياوية لتنفيذ أجندة المشروع الإيراني، ولو كان الثمن الذي قدمه بعض من أبناء هذه الأمة غالياً، لالتحاقهم بهذا المشروع، كان لأسباب مختلفة الخلفيات.
ونحن في تعاملنا مع العدوانية “الإسرائيلية”، لا نضع الموقف منها تحت عنوان الإدانة، لأننا لم ولن نعترف بكيان هو بالأساس، لا يحوز على أية مشروعية. بل هو كيان قام على الاغتصاب، وأفرزته موازين قوى سادت في لحظة احتدام الصراع الدولي والإقليمي، على الأمة وفيها.
وعليه، فإن الإدانة تصح عندما يكون الطرف المطلوب إدانته يحوز على صفة شرعية ويتجاوز في سلوكه وتصرفه حدود القانون الدولي العام والمواثيق الدولية، التي ترعى العلاقات بين الدول؛ يمكن عندئذ إدانة مواقفه.
ولهذا فإن الموقف من عدوانيته في أية جهة حصلت، إنما يكون بمواجهته بكل السبل والإمكانات المتاحة. وفي لحظة ارتفاع حرارة المواجهة بين أصدقاء الأمس وخصوم اليوم، فإن إيران إذا كانت تريد الرد على ما تتعرض له من قصف تدميري، فسبيلها ليس إطلاق صليات من الصواريخ أو بعض المسيرات، فهذا إن كان يريح نفسياً لكنه لا يحدث تعديلاً في واقع الحال الذي تختل موازينه لمصلحة العدو الصهيوني، وما يتلقاه من دعم مطلق من أميركا التي تلعب دور القيادة الاستراتيجية، للسيطرة على المنطقة ومواردها، وستبقى تعمل لاحتواء إيران وإدخالها ترتيبات نظامها الإقليمي الذي تعمل لتشكيله، بل يكون بإزالة الأسباب التي جعلت الأمة العربية بقاعدتها الشعبية في حالة عداء مع إيران.
وألف باء ذلك:
أن تبادر إيران إلى مغادرة مشروعها العدائي ضد الأمة العربية، تحت ما سمته تصدير الثورة الذي ما كان إلا تصديراً للتفتيت والتخريب والتغيير الديموغرافي.
وعندما يعيد النظام الإيراني حساباته، ويعتبر أن مصلحة إيران ومصلحة شعوبها هي نسج أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجوار العربي والإقليمي، سترى أن الأمة العربية هي خير صديق وخير حليف لمواجهة التحديات الكبرى التي تهدد الأمن القومي العربي والأمن الوطني لإيران.
هكذا يكون الرد على العدوانية “الإسرائيلية”، وهكذا يكون الانتصار للقضية الفلسطينية، وإلا، لن تنفع في ردع العدوان الخطابات السياسية أياً كانت سقوفها التعبوية عالية.
إن مواجهة العدوانية ومشروع التوسع الصهيوني يتطلب موقفاً عربياً رافضاً ومقاوماً وحاشداً لإمكانات الأمة في مواجهة العدو، كما يتطلب مبادرة إيرانية ترتقي حد الموقف الاستراتيجي،
الذي يكون على النقيض مما دأبت عليه سلطة الحكم في إيران، منذ استلم الملالي دفة الحكم، وعبر مغادرة موقفها العدائي للعروبة وفتح صفحة جديدة من علاقات حسن الجوار.
فهل تُقدم إيران على إحداث تحول استراتيجي في علاقاتها مع الأمة العربية؟
# المناضل صاحب الموقف والتجربة
Leave a Reply