العدالة المنقوصة والضمير المأزوم: فلسفة المعيار النووي في العقلين الغربي والعربي

بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

تنطلق هذه المقالة من تساؤلات ورؤية تحليلية عميقة أثارها الأستاذ عثمان إدريس أبوراس، نائب أمين السر، حول بنية المعايير النووية الدولية وتجلّيات الازدواج الأخلاقي الصارخ في التعامل مع الملف الإيراني مقارنةً بالنموذج الصهيوني. لقد جاءت مساهمته كمحفّز فكري لإعادة تفكيك هذه الإشكاليات من منظور فلسفي واستراتيجي أوسع، وهو ما تجسّده المقالة الراهنة.

في مناخٍ مشحونٍ بالتشويش المعرفي والانفعال الجمعي، تُعيد الأحداث المتسارعة في المنطقة صياغة الأسئلة الكبرى التي ظنّ البعض أنّها قد طُويت مع نهاية الحرب الباردة. لكن الحقيقة أن التاريخ لا يُطوى، بل يُعاد إنتاجه بأقنعة جديدة، وبأدوات أقلّ فظاظةً وأشدّ مراوغة. والشرق الأوسط، ذلك الفضاء الرمزي المتخم بالتناقضات، لا يزال يُمثّل نقطة احتكاك بين سرديات الهيمنة الكولونيالية المتجددة، ومساعي الشعوب – وبعض الدول – لاستعادة زمام المبادرة في تعريف ذاتها ومصيرها.

وفي خضمّ هذا التعقيد البنيوي، تصطفّ جماعات وأصوات، بعضها عن وعي وبعضها عن استلابٍ قيمي، لتصنّف ما يحدث من عدوان على دولة كإيران على أنّه “حدثٌ مفرح” أو “عدالةٌ مؤجلة”، متغاضيةً عن بُنية الحدث نفسه: كونه عدواناً سافراً شنّته دولة الاحتلال الصهيونية – صاحبة التاريخ الأطول في انتهاك القانون الدولي – ضد دولة عضو في الأمم المتحدة، على خلفية برنامج نووي لم تثبت إدانته. في المقابل، تحتفظ تل أبيب بترسانة نووية سرّية، خارج أي نظام رقابي، وبدعمٍ غربي كامل.

إن جوهر الإشكالية لا يكمن فقط في امتلاك السلاح النووي، بل في احتكار سردية الشرعية حول من “يُسمح له” بامتلاكه. فالدول الغربية الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة – قد نصّبت نفسها حارسةً للضمير النووي العالمي، رغم أنها الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت السلاح النووي فعلياً، لا مرة بل مرتين، في هيروشيما وناغازاكي عام 1945، مسببةً إبادة جماعية تمّ تبريرها لاحقاً بأدوات “الضرورة الأخلاقية”. فهل ثمة نفاق تاريخي أكثر وقاحةً من أن تتحول الجريمة إلى مقياسٍ للشرعية؟

وفي سياقٍ غير بعيد، لا يمكن قراءة الهجمات الأخيرة على طهران بمعزلٍ عن هذا النفاق الممنهج. فقد سبق للولايات المتحدة أن استخدمت أسلحة محرّمة دولياً في العراق، بما في ذلك خلال “معركة المطار” في عام 2003، وهو ما تشير إليه تقارير وشهادات لم يتم التحقيق فيها بجدّية. ومع ذلك، لم تُفرض عقوبات، ولم يُعقد مجلس الأمن، ولم تُصدَم ضمائر العالم المتحضّر. بالمقابل، فإنّ مجرّد امتلاك إيران لتكنولوجيا تخصيب اليورانيوم – وهي حق سيادي لدولة موقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي – يتحول إلى ذريعة للتهديد والعزل والحصار، بل وللقصف والاغتيال. ذلك الصمت المتكرر لم يكن إلا دليلاً على طمس متعمّد لعدالة دولية زائفة. فـ”العدالة” في السياق الغربي، كما وصفها المسيري، غالباً ما تُستخدم كأداة وظيفية ضمن مركزية القوة، لا كقيمة مطلقة. لذا، لا غرابة أن تكون ذات اليد التي دمرت بغداد، هي نفسها التي تمنح الشرعية لقصف طهران.

وما يزيد المفارقة فجاجةً، هو صمت المؤسسات الدولية، وتواطؤ النخب الليبرالية في الغرب التي ترفع شعارات السلم وحقوق الإنسان، لكنها تبرّر العدوان طالما أنه يُمارَس باسم “الردع الاستباقي”. وضمن هذا المشهد المُخزي، تصدر تصريحاتٌ من قادة دولٍ مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يشترط فيها شروطاً تعجيزية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، متناسياً أن دولة الاحتلال قد قامت ذاتها على أنقاض المجازر والتهجير. بل إنه لا يجد حرجاً في دعم العدوان الصهيوني على طهران، في مشهد يُظهر انكشاف البنية الأخلاقية للغرب، حينما تتقاطع مصالحه الجيوسياسية مع فكرته المُنتقاة عن “الشر”. وتبدو هذه المواقف كامتدادٍ لفلسفة “الاستثناء الحضاري”، حيث يحتكر الغرب تعريف الشر والخير، فيُجرّم امتلاك إيران لتكنولوجيا نووية بينما يُشرعن امتلاك الكيان الصهيوني لترسانة دمار شامل، بحجة “التهديد الوجودي”. إنها هندسة أخلاقية معكوسة، تفضح حدود النفاق الكامن في قلب النظام الدولي الليبرالي.

وفي قلب هذا المشهد المزدوج، يغيب الموقف العربي الرسمي، أو يظهر على استحياء، كما لو أن العدوان على دولة مجاورة لا يعني أمننا القومي، أو كما لو أن خلافنا الأيديولوجي مع طهران قد ألغى قدرتنا على التمييز بين السيادة الوطنية والهيمنة الاستعمارية الجديدة. إن الوقوف ضد سياسات إيران التوسعية في المنطقة لا ينبغي أن يُغلق أعيننا عن طبيعة الطرف المُعتدي. فحين يفرح البعض للعدوان على طهران، فقط لأنهم يختلفون معها مذهبياً أو سياسياً، فإنهم لا يدركون أنهم يمنحون شرعية مجانية للعدو الحقيقي الذي لم يتوقف يوماً عن قصف غزة، واغتيال العلماء في لبنان، وقصف صنعاء، وتفتيت الخرائط بالجملة.

وفي استدعاء ضروري للتاريخ، تتضح استراتيجية “ضرب أسفل الجدار” و”فرّق تسد” كعقيدة ثابتة في السلوك الغربي–الصهيوني تجاه المنطقة، لا كتكتيك عابر. فقد كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988) مختبراً مبكّراً لهذه المنهجية، حيث دعم الغرب الطرفين على التوازي، وبلغت ذروة “الانتهازية الجيوسياسية”، حين قصفت الكيان الصهيوني مفاعل تموز النووي العراقي في 1981، بينما كانت إيران تقاتل العراق. في حين فضحت فضيحة “إيران كونترا” (1986) كيف زوّدت الولايات المتحدة إيران سرًّا بالأسلحة في ذات اللحظة التي كانت تُمطر فيها بغداد بالقنابل السياسية والدبلوماسية.

ولا ينفصل عن هذا المشهد “قمة القاهرة” في أغسطس 1990، التي دشّنت زمن الاصطفاف الرسمي العربي تحت الراية الأمريكية، لتبرير غزو العراق لاحقاً باسم “الشرعية الدولية”. هذا الاصطفاف لم يكن معزولاً عن حسابات إيران آنذاك، التي – رغم شعاراتها الثورية – لم تتردد في اعتبار انسحاب العراق من الكويت “خطأً استراتيجياً”، مما رسّخ في الوعي العربي الشعبي صورة “الغدر والخيانة” والانتهازية الإيرانية، لا سيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق (2003)، حين تحولت طهران إلى شريك ضمني في اقتسام الخرائط وإعادة تشكيل الدولة من الداخل وفق خطوط مذهبية ومناطقية.

إن منطق “ضرب أسفل الجدار”، أي استهداف الحلقة الأضعف في سلسلة الدول العربية والإسلامية، لم يكن ممكناً دون نجاح استراتيجية “فرّق تسد”، حيث جرى إضعاف الحصانة القومية من الداخل عبر إحياء الهويات الجزئية، وتحويل الخلافات السياسية إلى عداوات وجودية. وكلما تمّت شيطنة طرف ما (كالعراق سابقاً، وإيران لاحقاً)، أصبح ضربه “أخلاقيًّا” و”مطلوبًا”، حتى وإن كان العدوان ينطلق من ذات المنصة التي قصفت بغداد وغزة وبيروت وصنعاء.

هذه ليست مسألة اصطفافٍ بين “محور مقاومة” و”محور اعتدال”، بل مسألة مبدأ. إن العدوان على دولة ذات سيادة – أياً كانت خلافاتنا معها – يجب أن يُواجَه بموقف مبدئي لا لبس فيه. أما تبرير القصف تحت عنوان “ردع الخطر الإيراني”، فهو انخراط في خطاب أمني استعماري، يعيد إنتاج المنطق نفسه الذي بُنيت عليه الحرب على العراق، والتي تَبيّن لاحقاً أنها كانت قائمة على أكاذيب مُفبركة.

الفكر الفلسفي يعلمنا أنّ العدالة ليست ابنة الهوى السياسي، ولا وليدة الاصطفاف الآني. العدالة، كما قال أفلاطون، هي “تناغم الكل مع الحق”، وحين يُغتال هذا التناغم باسم المصلحة أو الخصومة، تتحول السياسة إلى تبريرٍ دائم للعنف، ويتحوّل الوعي العربي إلى كائنٍ يتغذى على الكراهية بدل الفهم.

نحن بحاجة إلى نقد إيران، نعم، ولكن من داخل منظومة أخلاقية لا تبرر العدوان ولا تفرح بالدم. وبحاجة إلى أن نقف ضد امتلاك الكيان الصهيوني لترسانة نووية خارجة عن كل قانون، لا أن نُسقط أخلاقنا فقط حين تمتلكها إيران. وبحاجة إلى أن نُعيد بناء موقف عربي موحّد، لا يقوم على التطبيع مع الجلاد، ولا على العداء الانفعالي للمخالف، بل على إدراكٍ عميق بأن ما يُراد لنا هو أن نُستنزف في الصراعات الأفقية، بينما يُعاد تشكيل النظام الدولي على أنقاضنا.

فلا مستقبل لعربٍ يفرحون بقصف طهران، كما لا كرامة لعربٍ يصمتون عن مجازر غزة. أما أولئك الذين يبررون كلا القصفين، فهم حتماً لا يملكون خارطة للمستقبل، بل يُدارون من قِبل الآخر، ويُستَخدمون كأدوات في لعبة أكبر من إدراكهم.

في ضوء هذا المشهد المتوتر والمتشابك، يبرز سؤال ملحّ: هل يمكن أن يُفضي هذا التصعيد المتواصل، وخصوصًا الموقف الأمريكي والأوروبي الداعم بلا مواربة للعدوان الصهيوني على طهران، إلى إعادة تشكيل خارطة التحالفات الإقليمية والدولية؟ بل، هل يمكن تخيّل اصطفاف عربي إسلامي جديد يتجاوز هشاشة الماضي، ويُعيد تعريف المصالح والمهددات ضمن منظور أوسع يتجاوز الحسابات القُطرية الضيقة؟

قد يرى البعض في ذلك سيناريو طوباوياً، في ظل عمق الفجوة بين الدول العربية من جهة، وإيران وتركيا من جهة أخرى، لا سيّما في ضوء التاريخ المثقل بالشكوك ومشاريع التوسّع المتبادلة. غير أن التحولات الجيوسياسية الكبرى لا تحدث دائمًا بدافع النوايا الحسنة، بل أحيانًا بدافع الضرورات الوجودية. فالضغط الغربي غير المتوازن، والتواطؤ الصارخ مع سياسات الكيان الصهيوني، قد يُفضي إلى ما يشبه “المُصالحة الضرورية” بين أعداء الأمس، لا حباً بل دفعاً للخطر الأكبر.

إن مشروع تحالفٍ يضم أطرافاً كإيران وتركيا وبعض القوى العربية، وربما يمتد ليشمل قوى دولية كروسيا والصين، ليس مجرد رهانات نظرية. فالعالم يتجه بخطى حثيثة نحو تعددية قطبية لا تقبل بالحياد، وسيُطلب من الجميع أن يحددوا تموضعهم، إما ضمن محور الهيمنة القديمة، أو ضمن محاور جديدة قد لا تكون مثالية، ولكنها على الأقل تطرح بدائل سيادية ومصلحية.

في المقابل، فإن ما شهدناه من تماهي بعض الأنظمة العربية مع الخطاب الغربي بعد العدوان الصهيوني على إيران، يعيدنا إلى دائرة الخضوع المزمن، حيث يصبح الأمن القومي مستعاراً من عواصم القرار الغربية، بدل أن ينبع من الإرادة الجمعية للشعوب والمنطقة. ويكاد المشهد يبدو كأنه اختبار أخلاقي واستراتيجي نهائي: هل ستواصل دول مثل الخليج ومصر الرهان على المظلة الغربية، رغم انكشافها البنيوي، أم أنها ستعيد تعريف أمنها ضمن سياق إقليمي قادر على فرض احترامه لا استجدائه؟

ليست الإجابة هنا وصفة جاهزة، بل سؤال مفتوح أمام العقل السياسي العربي: هل نحن بصدد منعطف نحو تحالف مقاومة شامل، أم مجرد انحناءة جديدة أمام العاصفة الغربية؟

الختام:

العقل العربي مطالب اليوم بأن يتحرر من الخندق المذهبي والاصطفاف القَبَلي الجديد، وأن يستعيد قدرته على بناء معيار أخلاقي موحد، يُدين العدوان كائناً من كان فاعله، ويُعيد التوازن للضمير الجمعي الذي ضلّ طريقه بين التبرير والتشفّي. لقد فشلت معظم الأنظمة العربية، منذ عقود، في بلورة عقيدة أمن قومي قادرة على مقاومة التحوّلات الدولية. فكلما اشتدّ الخطر، لجأت إلى المظلّة الغربية، لا إلى شعوبها ولا إلى شركائها الإقليميين. هذا الارتهان البنيوي هو ما يجعل مشهد التطبيع يبدو نتيجة منطقية، لا استثناء شاذاً.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.