
في عيد الأضحى، لا يكتمل الفرح بذبح الأضحية فحسب، بل باستعادة جوهر الفداء: الاستعداد لتقديم ما هو عزيزٌ في سبيل ما هو أسمى. فالفداء، في بعده الرمزي، ليس مجرد طقس ديني، بل هو تعبير أخلاقي عن جوهر العقيدة: أن تضحّي لتُبقي الآخر، أن تمنح لتُقيم العدل، وأن تتجاوز الذات نحو الجماعة. غير أن السودان، وهو يدخل هذا العيد من قلب كارثة إنسانية متطاولة، يجد نفسه أمام اختبار عسير: حين يتحوّل الفداء إلى ترف، وتتآكل القدرة على التضحية، لا لغياب الإيمان، بل لانعدام الممكنات.
فالسودان الذي عرف عبر تاريخه عيداً مشبعاً بالتراحم والكرم والتكافل، يعيش اليوم لحظة انكسار اجتماعي واقتصادي قلّ نظيرها. ملايين الأسر التي اعتادت أن تستقبل العيد بطقوس الأضحية والزيارات والعطاء، وجدت نفسها هذا العام في مواجهة مباشرة مع أشباح الفقر، والنزوح، والجوع، والتشظي. من فقد منزله، ومن فقد راتبه، ومن فقد فلذة كبده في الحرب، يتساءل اليوم: كيف نحتفل في ظل الخسارات؟ وأي فداء يمكن أن يكون، حين يتحول اللحم من سنة نبوية إلى حلم يومي؟
اقتصاديًا، شكّل عيد الأضحى – في السنوات العادية – رافعة موسمية للقطاع الحيواني، وتحفيزاً للاستهلاك المحلي، وتدويرًا نسبيًا للسيولة، وارتباطاً حيويًا بين الريف المنتج والحضر المستهلك. غير أن الحرب، بسيطرتها على طرق النقل، وانهيار شبكات التوزيع، وانخفاض القوة الشرائية، جعلت من موسم الأضاحي هذا العام موسماً خافتاً، أقرب إلى الطقس الرمزي منه إلى الرواج التجاري.
في بعض مناطق النزوح، لم تُشاهد حتى مشاهد الذبح. وفي بعض الأحياء، تجمّع الأطفال يتفرّجون على ما كانوا جزءًا منه في السابق. وهكذا، لا ينكسر الطقس الديني وحده، بل تنكسر حوله دورة اقتصادية–اجتماعية كاملة كانت تمثل، في أيام العيد، فسحة للأمل.
أما اجتماعيًا، فقد كان العيد، في السودان، مؤسسة جامعة. هو الزمن الذي يعود فيه من غاب، وتتسامح فيه الخصومات، وتُعاد فيه لحمة العائلات. في زمن الحرب، لم تُقصَ فقط الأسر عن بعضها، بل انقطعت الجغرافيا، وتمزقت الروابط. كثيرون لن يستطيعوا هذا العام أن يعايدوا أمهاتهم، لأنهم إما في مناطق القتال، أو في المنافي، أو تحت التراب. آلاف الأطفال سيقضون العيد في معسكرات النزوح، بلا ألعاب، بلا ثياب جديدة، بلا بيت.
والفداء، بهذا المعنى، لم يعد فقط خروفًا يُذبح، بل صار يتجلّى في كل من يقاوم هذا الانهيار بمبادرة إنسانية، بقطعة خبز، بمواساة، بكلمة تعيد المعنى إلى المشهد.
إن ما تحتاجه البلاد اليوم ليس فقط أضاحي فردية، بل مشروع فداء جماعي. أن نُضحّي بالكراهية، بالطائفية، بالعسكرة، بأنانيات النخب، وأن نعيد بناء الدولة من قاعدة الرحمة والعدالة. أن تتحوّل معاني العيد من طقس موسمي إلى مشروع مقاومة اجتماعية ضد التجويع، والخذلان، والخذلان الاجتماعي.
لذلك، فإننا حين نحتفل – مهما خفتت الزينة، وغابت الفرحة – يجب أن نستحضر في ذاكرتنا ما قاله المفكر علي عزت بيغوفيتش: (كلما عانينا أكثر، فهمنا أكثر). والفداء الحقيقي، في السودان اليوم، لا يُقاس بعدد الأضاحي، بل بعدد الأيادي التي تمتد، والعقول التي تصمد، والأفواه التي تظل تبتسم رغم كل شيء.
فالتهنئة الحقيقية بالعيد هذا العام ليست (كل عام وأنتم بخير) فقط، بل: (كل عام وأنتم أكثر صبرًا)، (أشد رحمة)، (وأقرب إلى معنى الوطن في وجدان بعضكم البعض).
Leave a Reply