
بقلم: طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة:
ما بين السقوط الحر للعملات، والتصاعد الجنوني للأسعار، واحتلال الغنائم لموقع العقد، تتكشّف أمامنا مأساة الاقتصاد العربي لا كأزمة تمويل، بل كانتكاس في وظيفة المعنى. لقد بات الاقتصاد – في معظم الأقطار العربية – مسرحاً لانهيار مزدوج: بنيوي ومفاهيمي، حيث تفكّكت شبكات الإنتاج، وذابت المؤسسات في الولاءات، وتحوّل المواطن من فاعل إلى ضحية؛ ثم من ضحية إلى طامح في الخروج، لا في النهوض.
لم تعد الحرب، كما يُقال، مجرد سلاح يُشهر على الحدود؛ لقد أصبحت آلةً لإنتاج السوق نفسه. ففي ليبيا، وسوريا، واليمن، والسودان، بات منطق الميليشيا هو من يصوغ قواعد السوق: الذهب يُهرّب لا يُستثمر، العملة تُحتكر لا تُدار، المعونة تُقايض لا تُمنح. والنتيجة: اقتصاد تُحرّكه الغنيمة لا الخطة، وتُحدّده البندقية لا الميزانية.
أولاً: من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد الميليشيا – تشريح انتقالات الانهيار:
لكن الانهيار لا يُقاس فقط بالمؤشرات. السؤال الأعمق هو: ماذا بقي من معنى الاقتصاد حين تفقد الدولة وظيفتها كحامٍ وراسم أفق، وحين تتحوّل الموازنة إلى ورقة تفاوض بين أطراف النزاع؟ هنا لا نكون بإزاء عجز مالي فقط، بل بإزاء موت بطيء لفكرة الوطن كفضاء إنتاج مشترك. الاقتصاد، كما يفهمه الفكر القومي التحرري، ليس تراكمًا للثروة، بل تجلٍّ لعقد اجتماعي تُعبّر فيه الأمة عن قدرتها على التنظيم الحر، والسيادة على الموارد، والتوزيع العادل للثروة. ففي معظم البلدان العربية الخارجة من الحروب أو الغارقة فيها، نلاحظ تحوّلاً بنيوياً في طبيعة الاقتصاد:
- من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد التهريب.
- من مؤسسات الدولة إلى شبكات الولاء.
- من السوق المنظّم إلى السوق المضاد (counter-market).
- من الوظيفة العامة إلى الزبائنية.
- من التنمية إلى “اقتصاد الفوضى المُنظمة” – كما سمّاه Patrick Chabal في تحليله للحكم ما بعد الكولونيالي في إفريقيا.
في السودان مثلاً، احتكرت أطراف الصراع (الميليشياوي) مناجم الذهب، وقطاعات الجمارك والعملة. في سوريا، باتت خطوط الكهرباء وطرقات التهريب وأفران الخبز تُدار من قبل أمراء حرب. في اليمن، أصبحت المعونات الإنسانية سلعة للمساومة والابتزاز. في لبنان، هُرّبت الأموال، وتبخّر النظام المصرفي، وبات المواطن رهينة الدولار الطائر. ما يجمع هذه النماذج هو التالي:
- سيادة منطق الغنيمة بدل العقد الاجتماعي.
- غياب الدولة بوصفها (فاعلاً اقتصادياً أخلاقياً).
- استبدال السياسة الاقتصادية بالترقيع النقدي أو الاحتكار المسلح.
ثانياً: الثقة العامة: رأس المال المهدور في بُنى التوحّش:
وفي ظل هيمنة الاقتصاد المأزوم، تتهاوى الثقة العامة، وهي – في الجوهر – الرأسمال الرمزي الأعظم لأي مشروع اقتصادي حيّ. فلا استثمار دون إيمان بالمستقبل، ولا إنتاج دون يقين بأن الغد ليس ملكاً للفوضى. هنا، ينهار الأمل، ليس لأن السوق فقير، بل لأن العقل الاقتصادي مسلوب؛ لأن الإنسان بات يرى في الدولة كياناً غريباً، لا راعياً لأمله. كما أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة قُطعت عمداً، فتحول الاقتصاد إلى أداة في يد الممسك بالعنف، لا حواراً بين القوى الاجتماعية المختلفة.
الثقة ليست فقط رأسمالاً رمزياً، بل شرطاً أساسياً لدوام النشاط الاقتصادي – كما أشار Fukuyama في أطروحته الشهيرة حول (Trust: The Social Virtues and the Creation of Prosperity). لكن الثقة تنهار حين:
- تتحوّل السلطة إلى راعٍ للاحتكار.
- تتحول الدولة إلى كيان غير قابل للمساءلة.
- يتم تبني نموذج اقتصادي يقوم على إطفاء الحرائق، لا بناء الهياكل.
في العالم العربي، تفيد دراسات البنك الدولي وصندوق النقد بأن نسب الثقة في المؤسسات المالية والاقتصادية لا تتجاوز في المتوسط 30%، وتنخفض في الدول المتأزمة إلى أقل من 15%. وهنا، يكون السؤال: كيف يستثمر الناس في المستقبل، إذا كانوا يخشونه؟ كيف ينخرطون في السوق، إذا كانت قواعده تُعاد كتابتها كل أسبوع؟ كيف يراهنون على العمل، إذا كان العنف هو أسرع وسيلة للتراكم؟ وبكلمة واحدة: لا اقتصاد دون ثقة، ولا ثقة دون عقد سياسي–اجتماعي عادل.
ثالثاً: التصدع المفهومي: هل ما زلنا نعرف ما هو الاقتصاد؟
الاقتصاد في الفكر القومي–التحرري، كما عبّر عنه البعث وكتابات الأستاذ ميشيل عفلق، ليس مجرد تنظيم للإنتاج، بل هو (تعبير عن وعي الجماعة بذاتها، وبقدرتها على امتلاك مصيرها). فالاقتصاد هو مجال للحرية، وليس للربح فقط؛ وهو، كما قال الأستاذ صلاح الدين البيطار، (مساحة لتجسيد إرادة الأمة في وجه الفوضى، والهيمنة، والانقسام).
لكن، في واقعنا المعاصر، تبدو هذه الأزمة في جوهرها، أزمة نسيان: لقد نسينا أن الاقتصاد وُجد ليخدم السيادة، لا ليطلبها من الخارج. ونسينا أن العدالة ليست ترفاً أخلاقياً، بل شرطٌ للبقاء. ونسينا أن بناء الدولة يبدأ من إصلاح البنية الإنتاجية، لا من تعويم العملة أو جذب المستثمرين الذين لا يرون فينا سوى اليد الرخيصة أو السوق الخامل. نلاحظ أربعة مظاهر للتشوّه المفهومي:
- استبطان التبعية: حيث يُصبح (النموذج العالمي) (الليبرالي، النيوليبرالي، أو الريعي) هو المعيار الوحيد، رغم كونه أحد أسباب الفشل.
- انفصال الاقتصاد عن السياسة: في حين أن الإصلاح الاقتصادي بلا سيادة هو مجرد وهم تقني.
- الانفصال بين الفئات: حيث تُحمى الطبقات العليا، وتُترك القاعدة الاجتماعية للقدر أو للهجرة.
- تعويم الخطاب: الحديث عن (التحول الرقمي)، و(ريادة الأعمال)، و(مناخ الاستثمار) دون أي بنية إنتاجية حقيقية.
في هذا المناخ، تصبح الأرقام أداة للتخدير، والمفاهيم أداة للتغطية، وتُختزل التنمية في تقارير الشركات الاستشارية، لا في حركة الناس. لكنّ الذاكرة القومية التحررية لا تزال قادرة على تقديم إجابات. لا بوصفها حنيناً لعصر مضى، بل باعتبارها استدعاءً لفلسفة في الاقتصاد تعيد إليه روحه السياسية. فقد كتب الأستاذ ميشيل عفلق أن (حرية الإنسان تبدأ حين يشعر أنه مسؤول عن مصيره)، وأن (العدالة في الاقتصاد ليست محض توزيع بل هي تمكين الأمة من أن تختار أدواتها). أما صلاح الدين البيطار فقد أكّد أن بناء الاقتصاد هو من صميم معركة التحرر، لا مجرد مسألة إدارية.
من هنا، لا يكفي أن نطالب بـ (إصلاح اقتصادي) بل يجب أن نعيد تعريف ما نُصلحه، ولمَن. ما نحتاجه ليس فقط ميثاقاً للإنفاق أو قانوناً للاستثمار، بل ميثاقاً للأمة، يربط بين الإنتاج والسيادة، وبين السوق والكرامة، وبين الفعل الاقتصادي والمشروع القومي النهضوي.
هذا الميثاق لا يُولد في مكاتب البنك الدولي، بل في ساحات المقاومة، ومقار التفكير الحر، وفي أذهان الشباب الذين يصنعون الخبز من فتات الأمل. هو ميثاق نستلهمه من الجزائر حين انتفضت لا بالرصاص فقط، بل بالتأميم والإصلاح الزراعي؛ ومن العراق حين ربط التنمية بالكرامة؛ ومن تجارب الجنوب العالمي حين آمنت أن الاقتصاد لا يُحاكى بل يُخترع.
رابعاً: نحو اقتصاد تحرري: ممكنات البناء في سياق اللامعنى:
ماذا يعني اقتصاد تحرري في السياق العربي؟
- يعني أن نعيد التفكير بالاقتصاد بوصفه أداة للسيادة، لا مجرد أداة للتمويل.
- أن نعيد الاعتبار للقطاع الإنتاجي، لا كرمزية قومية، بل كرافعة فعلية.
- أن نكسر الثنائية الكاذبة بين (الاستثمار الخارجي) و(الفقر المحلي)، ونعيد بناء الاقتصاد من الداخل: من الأرياف، من الحرفيين، من التعاونيات، من الاقتصاد الأخلاقي.
إن الاقتصاد التحرري ليس اقتصاداً عسكرياً ولا اقتصاداً اشتراكياً بمعناه الستاليني، بل هو اقتصاد المقاومة المنظمة: حيث يكون المواطن فاعلاً، لا ضحية؛ وحيث تكون الدولة حامية لا وصية؛ وحيث تعود مفردات مثل (العدالة)، و(التوزيع)، و(الكرامة الإنتاجية) إلى قلب اللغة الاقتصادية. كما أنه اقتصاد موجه نحو الشباب: نحو الاستثمار في المعرفة، والطاقات المحلية، والربط بين الهوية والإنتاج، لا بين الربح والتعويم.
لقد آن الأوان ألا نُصلح فقط ما انكسر، بل أن نرفض النموذج الذي كسره. الاقتصاد العربي لن يُشفى إلا إذا تحوّل من تابع لمنظومات النهب، إلى حارس لرسالة الأمة. لن يُشفى إلا حين يُعلن الإنسان فيه عن نفسه: لا مستهلكًا لفتات المعونة، بل صانعًا للوفرة، لا عبدًا للأسعار، بل سيدًا للقرار.
فهل نملك الجرأة لنعيد طرح السؤال: أي اقتصاد نريد؟ ولمَن؟ وبأي أدوات؟ أم سنظل نُخدَّر بالتقارير، ونرقّع الخراب، ونخشى البديل لأنه يتطلب وعياً وموقفاً وشجاعة؟
الخاتمة:
إن ما ينقص الاقتصاد العربي ليس التمويل ولا المانحون، بل الفكرة. الفكرة التي تقول: إن التنمية قرار سياسي، وإن العدالة ليست هوامش في الموازنات، بل قلب المشروع. ما لم نستعد هذه الفكرة، سيبقى الاقتصاد تحت النار، وستبقى الأمة في مهب الريح. هل نملك شجاعة أن نكتب ميثاقاً اقتصادياً–قومياً جديداً، لا يبدأ من أرقام المؤسسات الدولية، بل من ضمير الإنسان العربي؟ الجواب، كما كان دائماً، ليس في السؤال… بل في من يجرؤ أن يحوّله إلى فعل.
Leave a Reply