و… ضاع شادي

بقلم: د.توتا صلاح المبارك

التقيا بأرواحٍ متمردة وقلوبٍ ثابتة، بين جدران المدينة وفي خضم تظاهراتها الهادرة، حين كانت الأيام حُبلى بزخم الثورة وعنفوان النضال.

كانت هي يافعةً تَقْطُر أحلامًا، تَضُج ثورةً، وتَنضح أَلَقًا. أطلقت مرتبكةً، وهي تُلقي شلال أسئلة على شاب كان يقف بجانبها ويبدو منهمكًا، غارقًا بكلياته في رسم جدارية: “لِمَ كل هذه الرموز الغاضبة؟ لِمَ كل هذه الألوان القانية؟ لِمَ كل هذا البركان الثائر؟”

أجابها: “هذه دواخلي، هذا أيضًا الوطن.”

ضحكت مرة أخرى بفرح طفولي غامر عندما عرفها أن اسمه “شادي”. أخبرته أن هذا اسم أخيها الذي قرر ألا يأتي لعالمنا الممهور ظلمًا وقهرًا! فقد كانت أمها عاشقة لصوت “فيروز”، ولَكَم سالت دموعها وهي تذوب وجدًا مع أغنية “شادي”. لذا، اختارت هذا الاسم لابنها- الحلم:

“من زمان أنا وصغيرة

كان في صبي يجي من الحراش

ألعب أنا وياه

كان اسمو “شادي”

ويوم من الأيام ولعت الدني

ناس ضد ناس علقوا بهالدني

وصار القتال يقرب على التلال

والدني دني

وعلقت على أطراف الوادي

شادي ركض يتفرج

خفت وصرت انده له

وينك رايح يا شادي

انده له وما يسمعني

ويبعد يبعد بالوادي

ومن يومتها ما عدت شفته

ضاع شادي…”

لما قالت إن اسمها “صافي”، فاجأها بقوله إن اسمها يماثل ضحكتها “صفاءً ونقاءً”!

شادي كان شعلة غضب وتحدٍ تُطفئ بعض حدتها خطوطُ رسمٍ وتعرجات ألوان يقذف بها من عمق وجدانٍ ملتهب! ابتسمت “صافي” لنفسها وهي تحس تمازج وتناغم الثورة والغضب و… الحنين!

كلا الاثنين كان يسكنه هاجس الفن والثورة، ويمتزج بذاته عشق الأرض والالتصاق بترابها. فلا غرو أن غدا التظاهر والتغني هتافًا بـ”حرية، سلام، وعدالة” متنفسًا لبركان التحدي بدواخلهم الثائرة. كما غدا الفن والرسم أداةً لنثر وانسكاب شلالات الحلم والحب والثورة، فأتت جداريات “اعتصام القيادة” تتحدث بصوت الضوضاء والصمت معًا. كانت اللوحات الجدارية التي أبدعوها تحتضن أحلامهم، وتطلق طاقاتهم لتحررها وتترجمها جمالًا يثري النفوس، وتنقش أحاسيس دافقة لتُغالب عاهات الوطن المغبون.

عندما حل “الظلام” ذات “صبح” حزين، وهجمت جموع العسكر والتتار على “أعلى النفق”، قُتل الرفاق وأُغرق الصِحاب، وانهارت مدينة الأحلام والأحباب، فدُمرت لوحاتهم ورموزهم و…:

“استُشهِد السلام في وطن السلام

وسقط العدل على المداخل

وسقط العدل

سقط العدل على المداخل”

وهكذا تغنى الوجدان وتغنى السودان كما فعلت “فيروز”.

صافي وشادي صمدا كالصخر في وجه عاتيات العواصف! في سانحات الهدوء الحزين بين “فض الاعتصام” وارتقاء الشهداء، تواصلت مسيرات الثورة المختطفة لتُشعل شموع الأمل والحنين في قلوبهما المتعبة المنهكة. وما بين حلم “المدنية” المُغَيَّب بأنياب خطيئة ٢٥ أكتوبر و”بوت” العسكر، لا تنطفئ أحلام الشباب حتى وإن غبش بريقها جشع “الكبار” وكيدهم و… نيران حربٍ ضروس أشعلوها فأحرقت الوطن!

هكذا توافق “صافي” و”شادي” أنه كما ألف بينهما الوطن والحب والثورة، لن تفلح قسوة الحرب في بذر الشتات الدائم!

صافي ذهبت حزينة ملتاعة مع أهلها إلى مصر. أما شادي فكان نزوعه عمقًا في السودان… توادعا وتواعدا أن يلتقيا في وطن آمن يصدح فيه السلام وتتهادى الحرية، وطن بلا جور عسكر أو غبن تتار.

“وغدًا نعود.. حتمًا نعود”

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.