
“لقد كانت العولمة وعدًا بالوحدة، لكنها انتهت بترسيم حدود جديدة، أكثر صلابة، وأقل عدلًا.” بهذه العبارة يمكننا أن نلخّص التحوّل العميق الذي يشهده الاقتصاد العالمي في مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. لم يعد العالم قرية صغيرة، بل عاد، في كثير من جوانبه، إلى “أرخبيل من الجزر الاقتصادية”، كلٌ منها يسعى إلى حماية أسواقه، تأمين سلاسله، وإعادة تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية.
الحدث الأكبر ليس انهيارًا اقتصاديًا بقدر ما هو انزياح في المسارات: من الانفتاح المفرط إلى الانكماش المحسوب، من التجارة الحرة إلى التبادل المشروط، من التبعية اللوجستية إلى السعي نحو الاكتفاء الذاتي. وليس عبثًا أن نرى اليوم تكتلات اقتصادية جديدة تتبلور: تحالفات تكنولوجية بين الصين وروسيا، اتفاقيات خضراء بين أوروبا وشركائها، قوانين حمائية في الولايات المتحدة تحت لافتة “إعادة توطين الصناعة”، وصعود غير مسبوق للبورصات الإقليمية في دول الخليج.
هذا التحوّل يعيد طرح سؤال قديم–جديد في السودان: ما موقعنا في هذا العالم المتغير؟ وأي نموذج تنموي يصلح لنا في ظل التكتلات لا السيولة؟ هل نستمر في تصدير المواد الخام كما كنا نفعل في زمن العولمة؟ أم نعيد التفكير في “اقتصاد للبقاء” قادر على التعامل مع الانغلاق العالمي والانكفاء الإقليمي؟
تداعيات التحولات العالمية على السودان:
- نهاية عصر السلع الرخيصة:
أدت الحروب التجارية، وانهيار سلاسل التوريد، وتصاعد النزاعات الجيو سياسية إلى ارتفاع كبير في أسعار الغذاء والطاقة والمعادن. بالنسبة للسودان، الذي يعتمد على استيراد القمح والوقود، فإن هذا يعني تضخمًا مضاعفًا، وأزمة مزمنة في الميزان التجاري، ما لم نُعد هيكلة الأولويات نحو الإنتاج الزراعي والغذائي المحلي.
- صعود الاقتصاد الأخضر:
بينما يتحوّل العالم نحو الطاقة النظيفة، لا يزال السودان عالقًا بين اقتصاد الوقود الأحفوري واللا طاقة. ومع أن لدينا شمسًا لا تغيب، ورياحًا لا تهدأ، فإن الاستثمار في الطاقات المتجددة لا يزال محكومًا بالعشوائية وغياب الرؤية. وهنا تبرز ضرورة تأسيس “بنك سيادي أخضر” لتوطين تكنولوجيا الطاقة الشمسية والرياح، عبر شراكات استراتيجية حقيقية.
- أزمة الثقة الدولية:
في ظل استمرار الحرب في السودان، وتعدد مراكز السلطة، وتآكل المؤسسات، أصبح السودان مُصنَّفاً ضمن “الاقتصادات الفاشلة”، ما يعني تراجع الاستثمارات الخارجية، وارتفاع تكلفة التمويل، وضعف القدرة على الدخول في تكتلات إقليمية أو شراكات تنموية. الحل لا يكمن فقط في وقف الحرب، بل في إعادة بناء العقد السياسي على قاعدة جديدة من الشفافية والاستقرار القانوني والمؤسسي.
- الفرص الكامنة في التعاون جنوب–جنوب:
في ظل انسحاب الغرب نسبيًا من مشاريع التنمية، تتجه العديد من الدول الإفريقية والآسيوية نحو تعزيز التعاون جنوب–جنوب، في مجالات مثل البنية التحتية، التعليم التقني، وتبادل السلع دون المرور عبر الأسواق العالمية. يمكن للسودان أن يلعب دورًا محوريًا في هذا الاتجاه، إذا ما أعاد رسم علاقاته الإفريقية، ليس على أساس سياسي فقط، بل اقتصادي–إنتاجي.
الاقتصاد كفعل وطني
السودان ليس فقيراً بالموارد، بل بالرؤية. وفي ظل تفكك الدولة، يتحول الاقتصاد إلى “جمر تحت الرماد”: تنتشر التجارة غير النظامية، يزدهر اقتصاد الحرب، وتتآكل القيم الإنتاجية. لكن رغم كل ذلك، فإن في البلاد قوى حية — من المزارعين التقليديين، ورواد الأعمال الشباب، إلى خبراء المال والاقتصاد المهجّرين — لا تزال قادرة على إعادة بناء الاقتصاد، لا كأرقام، بل كقضية وطنية.
خاتمة: نحو عقد اقتصادي جديد
في هذه اللحظة التاريخية، نحتاج في السودان إلى “عقد اقتصادي جديد”، لا يكتفي بإدارة الأزمة، بل يطرح سؤال المستقبل بجرأة: هل نريد اقتصادًا تابعًا، أم قائمًا على الاكتفاء؟ هل نكتفي بتصدير الذهب، أم نبني قاعدة صناعية وطنية؟ هل نظل أسرى المعونات، أم نؤمن بأن “الثروة تصنعها اليد السودانية حين تُحرَّر من الحرب والفساد والعوز”؟
إن تحوّلات الاقتصاد العالمي لا تُفهم فقط من خلال المؤشرات، بل من خلال ما تصنعه من فرص تاريخية. والعاقل من لا ينتظر “ما يُمنح”، بل يبدأ في بناء “ما يُنتزع” – بسياسة اقتصادية تقوم على الثقة، الكفاءة، والرؤية.
ولعل هذا هو التحدي الأكبر أمام الجيل الجديد من الاقتصاديين والمفكرين السودانيين: ليس فقط أن يشرحوا الخراب، بل أن يقترحوا البديل – بجرأة القلب، وواقعية العقل، وصدق الالتزام.
Leave a Reply