
بقلم: سهام صالح
في السودان، حيث الوطن مقبرة مفتوحة ومخيمات النزوح بيوتًا مؤقتة بلا أبواب، لجأت كثير من النساء إلى فضاء آخر، لا يُقصف ولا يُقتحم ولا تُنتهك فيه أجسادهن، في محاولة للفكاك من واقع مرير فرضته الحرب. منذ اندلاع النزاع، أصبح النزوح إلى المنفى الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ملاذًا لأرواحهن الهشّة، سعيًا لإثبات ذواتهن المقاومة وإيجاد مساحة للبقاء. لقد أُغلقت أمامهن أبواب التعليم والعمل والظهور العام، وباتت الكلمة الافتراضية هي الحضور الوحيد الممكن. هكذا، أخذت النساء السودانيات يؤسسن لأنفسهن وجودًا موازيًا، لا يعبأ بحدود الجغرافيا ولا يصادره خطاب الحرب بكل تداعياته. أصبح الهاتف بحد ذاته امتدادًا لقدرتهن على التعبير والولوج إلى عوالم الميديا، وتفريغ طاقتهن السلبية أو الايجابية عبر الكتابة أو الفيديوهات ومشاركة القصص مع الآخرين.
تحديات المنفى الرقمي
غير أن هذا المنفى الرقمي ليس متاحًا للجميع. ففي كثير من مخيمات النزوح، لا يوجد ما يمكّن النساء من الولوج إلى العالم الرقمي: لا شبكات اتصال مستقرة، ولا طاقة كهربائية منتظمة، ولا حتى أجهزة ذكية في متناول اليد.
هذا يعقد مهمة الناشطات السودانيات العاملات في مجال الدعم النفسي للنازحات داخليًا، ولسان حالهن يقول: “نكتب عنهن وندافع عن قضاياهن، لكنّهن لا يرين ما نكتب. كثير منهن لم يفتح حسابًا يومًا، ولا يعرفن ما هي وسائل التواصل الاجتماعي. حتى صوتهن في الفضاء الرقمي، يُكتب بالنيابة”.
هكذا يتحول الفضاء الرقمي، الذي يُفترض به أن يكون حقًا للجميع، إلى امتياز يُضاف إلى قائمة طويلة من الامتيازات المنكرة في سياق الحرب، حيث تختلط الكثير من التداعيات، وتُقصى النسوة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بـ “صمت تكنولوجي”.
مساحات للمقاومة والتعلم
رغم ذلك، وجدت كثير من النساء السودانيات في هذا الفضاء مساحة للمقاومة والتعلم. فبينما أُغلقت المدارس والجامعات، لجأن إلى الدورات التعليمية المجانية عن طريق مقاطع “يوتيوب” ومجموعات “تلغرام”، لتطوير معارفهن في مجالات متعددة مثل التصميم والبرمجة واللغات والإسعافات الأولية. شكلت هذه المنصات وسيلة لتجاوز العزلة القسرية وبناء أدوات للمقاومة اليومية، حيث أصبح التعلم الرقمي فعلًا من أفعال الصمود، وسبيلًا للتمكين الذاتي في وجه واقع ينهار.
لم تنتظر النساء السودانيات من يمنحهن منصة، بل صنعنها بأنفسهن. لم يكتفين بالبكاء على الخراب، بل التقطنه بعدساتهن ودوّنّ آثاره، ليقلن للعالم: “كنا هنا ورأينا كل شيء”. كان البودكاست وسيلتهن لتناول معاناة الشعب السوداني، وذهبن إلى سرد تفاصيل صغيرة غالبًا ما تغيب عن التغطيات الإخبارية أو لا تُكتب.
في كل منشور، صورة، تعليق، أو حتى تسجيل صوتي، تُبنى سردية أخرى للحرب؛ سردية لا تُكتب من مقرات وكالات الأنباء، ولا توثّقها كاميرات المراسلين، بل تنبثق من شاشات صغيرة بين أيدي نساء يجاهدن للبقاء مرئيات وسط العتمة. هذا الأرشيف العفوي، الحميم، والملتبس، هو اليوم أحد أكثر أشكال الذاكرة السودانية حيوية.
التوثيق والتضامن الرقمي
إن ما تقوم به هؤلاء النساء لا يندرج فقط تحت مسمى “الوجود الرقمي”، بل يتجاوز ذلك ليشكل فعلًا من أفعال التوثيق، والتمسك بالذات، وتدوين معاناة غير مرئية في السرد الرسمي للحرب.
وفي الفضاء الرقمي أيضًا، نشأت جسور من التضامن بين النساء داخل السودان ونساء المهجر. البعض منهن أنشأن مجموعة على تطبيق “واتساب” لتبادل الخبرات حول الأمان الرقمي، والحماية من الابتزاز، وإعدادات الخصوصية. أخريات قمن بعمل مجموعات للمساعدات الإنسانية أو الاستشارات الطبية. هذا النوع من المساندة – البسيط والفعال – يشكل ملامح شبكة مقاومة نسوية، غير رسمية، تتجاوز الخرائط واللغات، لكنها تُجذّر الشعور بالانتماء في زمن التهجير.
الخاتمة
لا ريب أن المنفى الرقمي لا يعوّض فقدان الوطن ولا يضمد جراح الحرب، لكنه – بالنسبة لكثير من السودانيات – المساحة الأخيرة التي يمكن من خلالها التخفيف من تداعيات واقع مرير. ربما، حين تنتهي هذه الحرب، سيبقى من كل ذلك أرشيف منشور، ورسائل مقروءة، ومقاطع صوتية مرتجفة، تشهد أن النساء السودانيات لم يصمتن. بل كتبن، وصرخن، واحتفظن بالذاكرة حية، ولو بين سطور “المنفى الثاني”.
Leave a Reply