
المرأة السودانية لا تنكسر.. رمز الصمود والعزيمة في وجه أقسى الظروف
مطالبة بــ 50% للمرأة في مرحلة ما بعد الصراع لضمان تمثيل عادل وفاعل في كل المستويات
في زمن الحرب والانهيار، تبرز أصوات نسوية تقاوم بالصمود والأمل، من بينها أماني إدريس، القيادية والناشطة التي أسهمت في تأسيس التنسيقية النسوية الموحدة استجابةً لتداعيات الحرب في السودان. بخبرتها في العمل المجتمعي وحقوق الإنسان، أصبحت من أبرز الأصوات المدافعة عن النساء المتضررات، وساعية لرسم طريق للتعافي والعدالة. في هذا الحوار، نقترب من رؤيتها حول واقع المرأة، وتحدياتها، وآفاق دورها في بناء السودان القادم.
حوار: عمر سفيان
س: كيف تصفين واقع المرأة السودانية الراهن في ظل الأزمة الحالية، وما هو الدور التاريخي الذي لعبته في قيادة التغيير بالسودان؟
ج: الواقع مرير بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكنه لم يكن يومًا قادرًا على كسر المرأة السودانية. هذه المرأة التي واجهت الفقر، الحروب، الفقد، والسجون، لا تزال واقفة كجدار يحمي ما تبقى من نسيج المجتمع. هي لم تكن يومًا على الهامش، بل في عمق الأحداث، منذ لحظة الاستقلال مرورًا بانتفاضتي 1964 و1985، وصولًا إلى ثورة ديسمبر المجيدة. المرأة السودانية كانت ولا تزال رأس الرمح في كل حركة تغيير. في الثورة الأخيرة، لم تكن مجرد مشاركة، بل كانت محركة ومؤسسة وملهمة. قادت اللجان، نظّمت الاعتصامات، ضمدت جراح المصابين، وحمت الثورة من الانهيار الأخلاقي والاجتماعي. “الكنداكات” لم يكن مجرد لقب، بل رمز تاريخي حيّ يستلهم من ماضي نِساء مرويّ وكوش، ويعيد تصديره إلى العالم.
س: كيف أثرت الحرب الراهنة على المرأة السودانية؟ وما أبرز الانتهاكات التي تعرضت لها؟
ج: الحرب لم تطرق بابًا بل اجتاحت البيوت عنوة، وكانت النساء أول من دفع الثمن. لم تعد المسألة فقط فقد مأوى أو مورد، بل أصبحت المسألة مسًّا مباشرًا بالجسد والكرامة. رصدنا حالات اغتصاب جماعي، وحالات زواج بالإكراه، وحالات حمل ناتج عن العنف الجنسي في مناطق النزاع. كل هذا يحدث في ظل صمت رسمي ومجتمعي مخيف. كما أن النزوح خلق موجات من الانقطاع عن التعليم والعمل والرعاية الصحية، مما ضاعف هشاشة وضع النساء. المرأة وجدت نفسها مسؤولة عن إعالة الأسرة في غياب الرجال، وأحيانًا دون موارد أو حماية. وهناك جانب نفسي غائب عن النقاش العام: النساء اللاتي تعرضن لانتهاكات يشعرن بالذنب والخجل، ويكبتن آلامهن في صمت، وهذا أمر مدمّر.
س: وهل تتوفر لهن أي خدمات دعم، نفسية، قانونية، أو اجتماعية؟
ج: للأسف، لا. الخدمات شحيحة إلى حد الخطر. لا توجد مراكز دعم نفسي مخصصة، ولا يوجد تأهيل قانوني للضحايا، ولا توجد حتى آليات بسيطة لرعاية الناجيات من العنف. بعض المنظمات تحاول ملء هذا الفراغ، لكن التحديات ضخمة، والحاجة أكبر من الموارد. حتى توفير أبسط الاحتياجات، مثل الفوط الصحية، لا يُؤخذ على محمل الجد، رغم أنه حق إنساني أساسي. نحن نطالب بإدخال الدعم النفسي ضمن خطط الطوارئ الوطنية، وبإنشاء مراكز مستقلة آمنة لرعاية النساء.
س: ما هي رؤيتك بشأن آليات المحاسبة للانتهاكات التي وقعت ضد النساء؟
ج: لا بد من وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب. هذه الجرائم لا يمكن أن تُطوى لأنها تمسّ جذر الكرامة الإنسانية. نطالب بآلية دولية مستقلة لتوثيق الجرائم والتحقيق فيها، وتقديم الجناة للمحاكم الدولية. العدالة المحلية في السودان اليوم إما مقيّدة أو مخترقة، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها. يجب إشراك منظمات حقوقية مستقلة، وضمان حماية الشهود والضحايا، والعمل على نقل ملفات الجرائم الموثقة إلى المحكمة الجنائية الدولية وتوسيع نطاق اختصاصها ووليتها لتشمل كل السودان. يجب أن تُعلن أسماء الجناة، وأن يعلم الناس أن من ارتكبوا الجرائم لن يناموا مطمئنين.
س: على صعيد الدعم الإنساني، ما الأولويات العاجلة بالنسبة للنساء؟
ج: نحتاج إلى برامج دعم نفسي عاجلة، لا تكتفي بجلسات فردية بل تنشئ مجموعات دعم ومراكز تأهيل. نحتاج إلى معسكرات آمنة مخصصة للنساء والأطفال، وإلى حزم مساعدات تراعي خصوصية النساء. كما نطالب ببرامج تأهيل مهني تساعد النساء على النهوض مجددًا، وتمكينهن من مصادر دخل مستقلة. يجب ألا تعتمد النساء بعد الآن على دعم هشّ أو مؤقت. نحتاج كذلك إلى توفير بيئة قانونية تحمي النساء من الاستغلال والعنف في أماكن الإيواء.
س: كيف تعمل القيادات النسوية على توحيد جهودها رغم هذا الشتات؟
ج: الشتات ليس قدَرًا، بل تحدٍّ يجب مواجهته. لذلك أطلقنا “التنسيقية النسوية الموحدة”، وهي منصة تسعى لتوحيد المبادرات النسوية المبعثرة، سواء داخل السودان أو في الشتات. نعمل على ربط المبادرات القاعدية بالجهود السياسية، وخلق قناة تنسيق موحدة في مجالات الإغاثة، التوثيق، والدفع السياسي. لدينا لجان للمرافعة الدولية، ولجان للعمل الميداني، ونحاول بناء كوادر نسوية قادرة على التحدث باسم النساء في كل المحافل، لا بصفتها ضحية، بل باعتبارها فاعلة ومبادرة.
س: ما رؤيتك لدور المرأة في مرحلة ما بعد الحرب؟
ج: نحن لا نريد العودة إلى الهامش. نطالب بتمثيل لا يقل عن 50% في كل مستويات الحكم، من المجلس المحلي حتى المجلس السيادي. نريد كوتا دستورية ملزمة، ونريد أن تكون للمرأة اليد الطولى في صياغة الدستور والبرامج السياسية. هذا التمثيل ليس منّة من أحد، بل استحقاق تاريخي. نطالب بأن تُدمج قضايا النساء في كل الخطط والسياسات: من التعليم إلى الاقتصاد إلى الأمن. نريد تمكينًا حقيقيًا، لا صورًا رمزية. نريد نساءً يقرّرن السياسات، لا يُستخدمن كزينة لمشاريع سياسية خاوية.
س: وهل ترين أن هناك مخاطر تهدد دور النساء حتى بعد انتهاء الحرب؟
ج: نعم، الخطر الحقيقي هو أن يُطلب من النساء العودة إلى الصمت بعد أن يهدأ الرَّصاص. هذا لن نقبله. النساء دفعن الثمن الأغلى، وهن من يملكن الخبرة والمعرفة والرؤية لإعادة بناء السودان. لا نريد سلامًا زائفًا يعيد إنتاج الأزمات، بل سلامًا شاملاً يُبنى على العدالة والمساواة. لذلك نُعد النساء اليوم – سياسيًا، اقتصاديًا، قانونيًا – ليتقدمن الصفوف غدًا. لا نهضة بلا نساء. هذه قناعتنا وهذا التزامنا.
Leave a Reply