العنف ضد النساء كسلاح في الحرب.. السودان نموذجًا

القاهرة: د.هناء البشير

يُعد العنف ضد النساء في سياق الحروب والنزاعات المسلحة ظاهرة عالمية مقلقة ومعقدة، تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، وتتجلى في أشكال متعددة تشمل العنف الجسدي، والنفسي، والجنسي. هذا العنف ليس وليد اللحظة، بل رافق الصراعات الإنسانية منذ زمن بعيد.

في حروب السودان، اتخذ العنف ضد النساء بُعدًا استراتيجيًا، حيث يُستخدم كأداة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. إنه ليس مجرد اعتداءات فردية تصاحب الفوضى، بل هو سلاح ممنهج يهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي، وتفكيك الروابط الأسرية، وتخويف المجتمعات المستهدفة.

وقد أوضحت دراسات عديدة، مثل دراسة كيلي دوان أسكين عن الاغتصاب كسلاح حرب وأداة إبادة جماعية، ودراسة إليزابيث جين وود حول العنف الجنسي زمن الحرب، إضافة إلى تقارير الأمم المتحدة حول النزاع المرتبط بالعنف الجنسي وتقارير هيومن رايتس ووتش ويوناميد، أن استخدام العنف ضد النساء في النزاعات المسلحة ليس عشوائيًا. بل هو مخطط له ويعكس استراتيجيات تسعى إلى تعزيز السيطرة وفرض الهيمنة. من خلال استهداف النساء، يسعى المعتدون إلى تقويض الروح المعنوية للمجتمعات وزعزعة استقرارها، مما يساهم في تفاقم الأزمات الإنسانية وتعقيد جهود السلام والمصالحة.

تعريف العنف ضد النساء

يُعرّف العنف ضد النساء بأنه أي فعل يُرتكب ضد المرأة، قائم على النوع الاجتماعي، ويؤدي أو يُحتمل أن يؤدي إلى أذى جسدي، أو نفسي، أو جنسي، أو اقتصادي، أو إلى معاناة للمرأة. يشمل ذلك التهديد بمثل هذه الأفعال، أو الإكراه، أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة.

يشمل هذا العنف عدة أشكال:

 * العنف الجسدي: كالضرب، أو الحرق، أو الإيذاء الجسدي بأي شكل، بما في ذلك الاغتصاب، والتحرش، والاستغلال الجنسي، والزواج القسري.

 * العنف النفسي واللفظي: كالإهانة، التهديد، التحقير، العزل الاجتماعي.

 * العنف الاقتصادي: كحرمان المرأة من حقها في العمل، أو التحكم في دخلها، أو الاستيلاء على ممتلكاتها.

 * العنف المؤسسي والقانوني: كالتمييز في القوانين أو السياسات التي تقيّد حقوق النساء وحرياتهن.

 * العنف القائم على العادات والتقاليد: مثل تشويه الأعضاء التناسلية (ختان الإناث)، أو زواج الطفلات، أو التمييز المرتبط بـ “الشرف”.

يتوافق هذا التعريف مع ما ورد في الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الصادر عن الأمم المتحدة عام 1993، ويأخذ في الاعتبار الأبعاد المختلفة للعنف في السياقات العامة (كالشارع، العمل، المؤسسات) أو الخاصة (كالأسرة أو الشراكة الزوجية).

أسباب استخدام العنف ضد النساء كسلاح في الحرب

تتعدد الأسباب والدوافع وراء استخدام العنف ضد النساء في النزاعات المسلحة، وتشمل:

 * الاستراتيجية العسكرية: يُعتبر العنف ضد النساء وسيلة لتقويض الروح المعنوية للعدو، وإخافة الخصوم، وإضعاف التماسك الاجتماعي في المجتمعات المستهدفة.

 * السيطرة الاجتماعية: يُستخدم العنف لتحقيق السيطرة على المجتمعات، حيث يؤدي الاعتداء على النساء إلى تفكيك العلاقات الأسرية والمجتمعية، مما يسهل الهيمنة.

 * التعزيز الأيديولوجي: يُستغل العنف ضد النساء في سياقات تتعلق بالأيديولوجيات المتطرفة، حيث يُستخدم كوسيلة لتأكيد القوة الذكورية وتعزيز المفاهيم التقليدية للأدوار الجنسية.

 * تأجيج النزاعات: يُعتبر العنف ضد النساء وسيلة لتأجيج الصراعات بين المجموعات، مما يعمق الانقسامات الاجتماعية والعرقية.

 * الانتقام والعقاب: يُستخدم العنف كوسيلة للانتقام من المجتمعات أو الأفراد، وغالبًا ما يكون الهدف هو العقاب الجماعي.

 * تفكيك المجتمعات: يُستخدم العنف الجنسي كوسيلة لتدمير نسيج المجتمعات المستهدفة، عن طريق وصم النساء وجعل عودتهن للحياة الطبيعية مستحيلة.

 * انهيار الدولة وغياب المحاسبة: يؤدي غياب الدولة وضعف المؤسسات القضائية إلى إفلات الجناة من العقاب، مما يشجع على تكرار الانتهاكات.

التأثيرات الاجتماعية والنفسية على المجتمعات المتأثرة

تترك ممارسات العنف ضد النساء آثارًا عميقة وواسعة النطاق على الأفراد والمجتمعات:

 * تدمير الروابط الاجتماعية: يؤدي العنف إلى تفكيك العائلات والمجتمعات، مما يزيد من تفشي الشعور بالانفصال والاغتراب.

 * الآثار النفسية: تعاني النساء اللواتي يتعرضن للعنف من آثار نفسية عميقة، تشمل القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي يؤثر على حياتهن اليومية.

 * زيادة العنف المستقبلي: يمكن أن يُسهم العنف ضد النساء في خلق دائرة من العنف، حيث يتعرض الأطفال الذين يشهدون هذا العنف لاحقًا لمخاطر أكبر في تكرار هذه السلوكيات.

 * تأثيرات على الصحة العامة: تُزيد حالات العنف من أعباء النظام الصحي، حيث تحتاج الضحايا إلى خدمات طبية ونفسية، مما يضع ضغطًا إضافيًا على الموارد.

 * إعاقة التنمية: يؤثر العنف على النساء بشكل كبير، مما يؤدي إلى تراجع مشاركتهن في القوى العاملة ويعرقل التنمية الاقتصادية للمجتمعات.

 * الوصمة الاجتماعية: يُعد الاغتصاب في المجتمعات السودانية وصمة عار، مما يُجبر العديد من النساء على الصمت أو العزلة.

 * تفكك الأسر: يُساهم العنف في انهيار الأسر بسبب الطلاق أو النبذ الاجتماعي للضحايا.

 * إعاقة جهود السلام: يستمر أثر العنف ضد النساء في التأثير على جهود المصالحة والسلام، حيث تبقى التجارب القاسية في الذاكرة الجماعية للمجتمعات.

من خلال فهم هذه الأسباب والدوافع وتأثيراتها الواسعة، يمكن العمل نحو إيجاد حلول فعالة للحد من العنف وتحقيق السلام المستدام.

العنف ضد النساء في النزاعات السودانية: سياق تاريخي وأنماط

يُعد استخدام العنف الجنسي ضد النساء في السودان خلال الحروب والنزاعات المستمرة حدثًا غير عرضيًا، بل كان منهجيًا واستُخدم كسلاح لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية. شهدت البلاد سلسلة من الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة التي صاحبتها انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك العنف الجنسي والجسدي ضد النساء.

طبيعة العنف ضد النساء في النزاعات السودانية:

 * الاغتصاب الجماعي: يتم استهداف النساء في مناطق النزاع بشكل جماعي بهدف نشر الرعب وترهيب السكان.

 * الاستعباد الجنسي: في بعض الحالات، يتم اختطاف النساء واحتجازهن لفترات طويلة، ويُجبرن على تقديم خدمات جنسية للمقاتلين.

 * الاعتداء الجسدي والتعذيب: تتعرض النساء للضرب والإيذاء النفسي والجسدي، إما أثناء الغارات أو في مراكز الاحتجاز.

 * الحمل القسري: في بعض الحالات، تم استخدام الاغتصاب المتكرر لإجبار النساء على الحمل من أفراد الميليشيات كوسيلة للتطهير العرقي.

لمحة تاريخية عن العنف ضد النساء في الحروب السودانية:

 * الحرب الأهلية الأولى (1955-1972):

   بدأت قبل الاستقلال واستمرت حتى توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972. خلال هذه المرحلة، كانت الانتهاكات ضد النساء أقل توثيقًا، لكنها وُصفت بأنها كبيرة نتيجة للهشاشة الأمنية ولم تحظ بدراسات علمية كافية.

 * الحرب الأهلية الثانية (1983-2005):

   كانت الحرب بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان. تخللتها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، واستُخدم العنف الجنسي كسلاح لترهيب السكان. مارست الأطراف المتحاربة العنف ضد النساء لتحقيق مكاسب عسكرية، واُختطفت النساء في بعض الأحيان وأُجبرن على الزواج أو تقديم خدمات جنسية. لم تكن الانتهاكات مقتصرة على الجنود الحكوميين بل شملت كذلك مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان. وتشهد أسماء بعض الأحياء في مدينة جوبا، مثل “اطلع بره” و”حي لباس ما في” و”حي رجال ما في”، على الكم الهائل للعنف بكافة أشكاله ضد النساء.

 * صراع دارفور (2003 – حتى الآن):

   شهدت مناطق دارفور انتهاكات واسعة وعنفًا جنسيًا ممنهجًا ضد النساء من قبل الجنود التابعين للجيش النظامي والميليشيات التابعة له وقوات الحركات. شمل ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي الذي استخدم كسلاح أساسي ضمن استراتيجية لإضعاف المجتمعات المحلية. تم الإبلاغ عن حوادث اغتصاب واسعة النطاق في المخيمات وأثناء الهجمات على القرى. تم استهداف النساء والفتيات بشكل ممنهج، ومن أشهر الجرائم في 2014 كان التبليغ عن جريمة الاغتصاب الجماعي لأكثر من مئتي امرأة في منطقة تابت بولاية شمال دارفور من قبل عناصر من القوات المسلحة السودانية، مما حدا بالمحكمة الجنائية الدولية أن تعد هذه الجرائم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ورفعت دعاوى على إثرها على مسؤولين رفيعي المستوى منهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير. وثقت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش هذه الجرائم، وأكدت أن الهدف كان إحداث تفكك مجتمعي وزرع الخوف بين السكان.

 * النزاعات القبلية والنزوح الداخلي:

   النزاعات القبلية المتكررة، لا سيما في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، أدت أيضًا إلى استهداف النساء ضمن عمليات انتقامية. أثناء الغارات على القرى، يتم اغتصاب النساء وحرق الممتلكات، مما يؤدي إلى انهيار البنية المجتمعية.

 * حرب الجيش والدعم السريع (15 أبريل 2023 – حتى الآن):

   أشارت تقارير المنظمات الدولية والإقليمية العاملة في السودان، مثل شبكة صيحة، إلى تصاعد حالات العنف الموجه ضد النساء منذ اندلاع النزاع بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. سُجل ارتفاع كبير في أعداد ضحايا العنف ضد النساء، حيث واجهت النساء العديد من المخاطر بكل أنواعها، من اعتداءات جنسية وجسدية، وتحرش، واسترقاق، وفقدان للأمان، ونقص في الخدمات العامة والصحية الأولية، ونزوح وتهجير قسري. سجلت المنظمات الحقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش، تورط قوات الدعم السريع في تنفيذ عمليات اغتصاب جماعي وجرائم عنف جنسي أخرى في الخرطوم ومدن أخرى مثل ولاية الجزيرة ودارفور. كما تعرضت بعض النساء للاحتجاز في ظروف قاسية ترقى إلى الاسترقاق الجنسي، وأُجبر البعض على الزواج القسري وزواج الأطفال في ظل هذه الحرب. بالإضافة إلى معلومات عن تورط بعض جنود القوات المسلحة في جرائم اغتصابات في أم درمان ومقايضة الجنس بالغذاء. وفي آخر إفادة لرئيسة وحدة العنف ضد المرأة والطفل بالسودان، أفادت بوجود عدد كبير من النساء والأطفال الأسرى، حيث تجاوز عدد المفقودات 500 مفقودة، وأشارت إلى وجود حالات اختطاف وبيع، لكن الأسر التي دفعت فدية احتفظت بتلك المعلومات.

   أدى انعدام الأمن والفوضى التي صنعتها الحرب إلى:

   * نقص كبير في المعلومات: أصبح من غير الممكن الحصول على معلومات دقيقة عن الأعداد الحقيقية للضحايا والناجيات.

   * منع وصول المنظمات: مُنعت المنظمات العاملة من الوصول إلى المحتاجين وتقديم الخدمات الضرورية، مما أدى إلى تدهور مريع في الخدمات الصحية الأولية للمدنيين عمومًا وللنساء خصوصًا، والخدمات الصحية للناجيات من العنف.

   * تحدي التوثيق: مثل انعدام الأمن تحديًا كبيرًا للتوثيق والكشف عن حالات العنف، وجعل البيانات غير متاحة، وعرّض النشطاء والناشطات والمهتمين والمهتمات لخطر الاعتقال والمحاكمات بتهم التجسس من قبل طرفي النزاع.

المحاولات المحلية والدولية لمواجهة العنف ضد النساء في السودان

تُبذل جهود مختلفة لمواجهة هذه الظاهرة المعقدة، وتشمل:

 * اتفاقية السلام الشامل (2005): حاولت الحد من العنف عبر وضع ترتيبات انتقالية، لكنها لم تعالج بشكل مباشر الانتهاكات الجنسانية.

 * جهود المحكمة الجنائية الدولية: وجهت المحكمة اتهامات لبعض المسؤولين عن الجرائم في دارفور.

 * دور المجتمع المدني السوداني: تسعى منظمات نسوية لرفع الوعي والدعوة إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

 * دور الأمم المتحدة: عملت بعثات السلام على مراقبة وحماية النساء، خاصة في مناطق النزاع مثل دارفور.

التحديات الحالية

على الرغم من الجهود المبذولة، تواجه مواجهة العنف ضد النساء في السودان تحديات كبيرة:

 * الحرب واستمرارها: تُعد الحرب أكبر تحدٍ أمام حماية النساء.

 * الانقلابات السياسية وعدم الاستقرار: يُعيق استمرار النزاعات والانقلابات، مثل انقلاب 2021، محاولات التقدم في قضايا العنف الجنسي.

 * عدم تفعيل آليات المحاسبة: على الرغم من وجود قوانين، فإن غياب التنفيذ يظل عائقًا كبيرًا.

 * ضعف التمويل والدعم للضحايا: تعاني المنظمات الداعمة من شح في الموارد وتحديات في الوصول إلى مناطق النزاع.

خاتمة

يُعد العنف ضد النساء في السودان جريمة متعددة الأوجه، تتجاوز الأضرار الفردية لتؤثر على المجتمعات بأكملها. بالرغم من الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة، فإن الحرب واستمرارها، بالإضافة إلى غياب الاستقرار السياسي والمحاسبة، يمثل عائقًا كبيرًا أمام إنهاء هذه الانتهاكات. تحتاج البلاد إلى استراتيجيات شاملة تجمع بين المساءلة القانونية، ودعم الضحايا، وتمكين النساء في صنع القرار لضمان وقف هذه الجرائم وإنصاف الناجيات.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.